بقلم الدكتورة/ نادية حلمى
أستاذ العلوم السياسية جامعة بنى سويف- الخبيرة فى الشؤون السياسية الصينية والآسيوية
تتميز كوريا الجنوبية فى مجال صناعة رقائق الذاكرة العالمية على مدار سنوات طويلة، ولكن هذا الجهد الكورى الجنوبى طويل الأجل بات محل تهديد، كما أن ضمان بقاء كوريا الجنوبية فى المنافسة بشكل عام، وسط صراع الولايات المتحدة الأمريكية والصين على أشباه الموصلات، بات في خطر. ومن هنا تأتى زيارة الرئيس الكورى الجنوبى “يون سيوك-يول” إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، فى إطار حملة كجزء من الجهود الوطنية لكوريا الجنوبية لتمويل وتحفيز صناعة الرقائق المحلية لكوريا الجنوبية.
وتزداد أهمية تلك الزيارة إستراتيجياً فى إطار حماية الأمن القومى لكوريا الجنوبية، مع ضخ الولايات المتحدة الأمريكية والصين واليابان المليارات فى بناء سلاسل توريد الرقائق الخاصة بهم، مما يعيق دور كوريا الجنوبية المستقبلى فى مجال أشباه الموصلات. فقد بات الأمر يتعلق بالأمن القومى الكورى الجنوبى، وهى العبارة التي جرى إستخدامها كثيراً مؤخراً بين واشنطن وبكين من جانب الذين يوجهون المواهب، والمال، ودعم السياسات لتطوير شرائح أشباه الموصلات التى تدعم التقنيات المستقبلية من الذكاء الإصطناعى والجيل القادم من الحوسبة، ولا سيما لتطوير القدرة العسكرية، وهو ما تحاول كوريا الجنوبية المنافسة والمواجهة فيه بين واشنطن وبكين.
وهنا تجنبت سيول التعليق بشأن مدى إلتزامها بعقوبات إدارة الرئيس الأمريكى “جو بايدن” على صادرات المعرفة المرتبطة بالعلاقة التكنولوجية المتوترة بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين. لذلك تأتى زيارة الرئيس الكورى الجنوبى “يون” للإمارات للتعبير عن مدى حاجة كوريا الجنوبية لبناء قدراتها التكنولوجية المحلية الخاصة بها، بعيداً عن المخاطرة بتزايد خضوعها للقوى الأجنبية وفقاً لوجهة نظر الحكومة الكورية الجنوبية.
وهذا ما أكدته كوريا الجنوبية بشأن إعتزامها تركيز جهودها السياسية على توسيع آفاقها الدبلوماسية هذا العام من خلال تعزيز العلاقات مع الدول الأخرى ذات “القيم المشتركة” من أجل التغلب على “الأزمات العالمية المعقدة”، وذلك فى بيان منشور على الصفحة الرسمية لوزارة الخارجية بكوريا الجنوبية فى تقريرها المقدم إلى الرئيس “يون سيوك-يول” بشأن مهام السياسات الرئيسية لعام ٢٠٢٣.
وجاء ذلك كجزء من الجهود المبذولة لتحقيق رؤية الإدارة السياسية لسيول، والمتمثلة فى جعل كوريا الجنوبية “دولة محورية عالمية” من خلال الدبلوماسية “الوقائية والإستباقية” وسط التحديات المستمرة، مثل: تصاعد “المنافسة الإستراتيجية” بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين ودور كوريا الجنوبية فيها، ومدى تأثر المصالح الكورية الجنوبية بالحرب الروسية-الأوكرانية، فضلاً عن التأثيرات الإقتصادية الجانبية لجائحة كورونا على الإقتصاد الكورى الجنوبى وعالمياً.
ومن أجل ذلك، تسعى كوريا الجنوبية لمواصلة تطوير التحالف الإستراتيجى الشامل العالمى بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها الآخرين، وهو ما تم الإتفاق عليه فعلياً خلال المحادثات بين الرئيسين الكورى الجنوبى “يون سيوك-يول” ونظيره الأمريكى “جو بايدن” خلال إجتماعهما المشترك فى مايو ٢٠٢٢، والهادف لتعزيز التعاون الأمنى الثلاثى الذى يشمل اليابان أيضاً بقيادة واشنطن فى مواجهة الصين.
وتواصل العاصمة سيول السعى نحو إصلاح العلاقات مع طوكيو بمساعدة واشنطن فى مواجهة الصين بالأساس، من خلال البحث عن “حلول معقولة” للقضايا العالقة بينهما أى بين كوريا الجنوبية واليابان، مع سعى كوريا الجنوبية لإحياء “الدبلوماسية المكوكية” مع اليابان من خلال هذه العملية السياسية لمواجهة تمدد وإحتواء الصين بمساعدة واشنطن وحلفاؤها حول العالم وفى منطقة الإندو-باسيفيك بالمفهوم الأمريكى أو آسيا المحيط الهادئ بالمفهوم الصينى. خاصةً مع التخوفات الدفاعية والأمنية الكورية الجنوبية بشأن الطلعات الجوية المشتركة الصينية – الروسية فوق منطقة آسيا-المحيط الهادئ فى نوفمبر ٢٠٢٢، فوق بحر اليابان وبحر الصين الشرقى.
لذا جاء إختيار العاصمة الكورية الجنوبية لدولة الإمارات تحديداً بالنظر لأهميتها فى الأجندة السياسية لسيول فضلاً عن دعمها لإستثمارات سيول المتعلقة بقطاع التكنولوجيا والذكاء الإصطناعى وأشباه الموصلات كمنافسة قوية فى مواجهة بكين، ومن هنا سعت كوريا الجنوبية لتدعيم علاقتها بالإمارات كبوابة حقيقية لها لمنطقة الشرق الأوسط، فكانت دولة الإمارات بالنسبة للعاصمة سيول بمثابة أول دولة فى منطقة الشرق الأوسط تتمتع بعلاقات شراكة إستراتيجية مع جمهورية كوريا الجنوبية، وبرز هذا التعاون المشترك والتوافق فى الرؤى، من خلال الدور الذى تمارسه كوريا الجنوبية إلى جانب دولة الإمارات فى القضايا ذات الطابع الدولى، ومنها على سبيل المثال: قضايا الدفاع عن حقوق الإنسان والقضايا الإنسانية والمناخ، وغيرها من الإسهامات فى المشاريع الخيرية المشتركة بين البلدين.
كما جاء حرص كوريا الجنوبية على إفتتاح العديد من الشركات التكنولوجية لأشباه الموصلات والرقائق التى تدخل فى العديد من الصناعات التكنولوجية وتكنولوجيا الذكاء الإصطناعى فى دولة الإمارات لمنافسة الصين لصالح واشنطن بالأساس. وبلغ عدد الكوريين الجنوبيين المقيمين فى دولة الإمارات حوالى ١٥ ألف مواطن كورى جنوبى، فيما وصل عدد الشركات الكورية الجنوبية التى تعمل فى دولة الإمارات إلى حوالى ٢٠٠ شركة عاملة كمنافس قوى للصينيين، وبفضل الخطوط الجوية المباشرة من أبوظبى ودبى إلى العاصمة الكورية الجنوبية “سيول”، فقد شهدت العلاقات الإقتصادية والتجارية والسياحية بين البلدين قفزة كبيرة خلال السنوات الأخيرة.
وتهدف زيارة الرئيس الكورى الجنوبى “يون سوك يول” إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، لبناء علاقة إستراتيجية جديدة بناء على الثقة المتراكمة بين الجانبين، وتهدف كذلك لدعم عدد من المشروعات التنموية والإقتصادية الإستثمارية المشتركة بين كوريا الجنوبية كحليفة إستراتيجية لواشنطن مع دولة الإمارات، والتى يعد أهمها على الإطلاق مشروع محطة “براكة” للطاقة النووية السلمية، والتى تمثل رمزاً للتعاون بين الجانبين الكورى الجنوبى والإماراتى، وذلك بعد فوز كوريا الجنوبية بصفقة لبناء محطة “براكة” للطاقة النووية فى عام ٢٠٠٩ بعد منافسة شرسة مع الصين والعديد من القوى والدول الأخرى. كذلك ستكون من ضمن أهداف زيارة رئيس كوريا الجنوبية “يون” للإمارات، هو العمل على توسيع سبل التعاون الثنائى وتجسيدها فى أربع مجالات رئيسية، أهمها: تطوير مجال الطاقة النووية، أمن الطاقة، تصنيع الأسلحة، فضلاً عن التعاون فى مجال الإستثمارات والمشروعات المشتركة بين البلدين كمجال تنافس حيوى فى مواجهة الصينيين.
وهناك تأكيد من قبل الرئيس الكورى الجنوبى “يون” برغبته فى دعوة رئيس الإمارات “محمد بن زايد آل نهيان” لزيارة كوريا الجنوبية للإطلاع على مدى تقدم التكنولوجيا الكورية الجنوبية مقارنةً بالصينية، خاصةً فى مجالات الذكاء الإصطناعى وأشباه الموصلات والرقائق التكنولوجية، وغيرها. وهذا بالطبع ما تدعمه واشنطن كحليفة إستراتيجية قوية لكوريا الجنوبية واليابان فى مواجهة الصينيين.
ونجد أنه بعد تأسيس العلاقات الثنائية بين الإمارات ودولة كوريا الجنوبية فى عهد الشيخ “زايد بن سلطان آل نهيان” مؤسس دولة الإمارات، وإفتتاح سفارة الإمارات فى العاصمة سيول عام ١٩٨٧، تميزت العلاقات الإماراتية الكورية الجنوبية بالقوة والثبات، وشهدت تبادلاً واسعاً للزيارات بين كبار المسؤولين فى البلدين، فى إطار سعى البلدين لتطوير العلاقات وتعزيز التعاون المشترك فى كافة المجالات السياسية والإقتصادية والتجارية والتعاون العلمى والتقنى، بالإضافة إلى تبادل وجهات النظر حول مجمل القضايا الإقليمية والدولية.
وعلى الجانب الآخر، فتلك الزيارة لرئيس كوريا الجنوبية ستنعكس بشكل إيجابى على القطاع السياحى، فنجد على صعيد التبادل السياحى، بأن حوالى قرابة ١٤٠ ألف سائح كورى جنوبى زاروا الإمارات خلال عام ٢٠١٧، فيما بلغ عدد السياح الإماراتيين إلى كوريا الجنوبية نحو ١٠ آلاف سائح، بالإضافة إلى أن ١٦٠٠ كورى جنوبى يدرسون فى جامعات ومعاهد ومدارس الإمارات، مما يسهم فى تعزيز العلاقات المتميزة التى تجمع بين البلدين.
وإحتفلت البلدين بإكتمال الأعمال الإنشائية للمحطة الأولى فى (مشروع محطات براكة للطاقة النووية السلمية فى الإمارات) وتم الإحتفال بهذه المناسبة فى موقع العمليات الإنشائية للمحطة النووية الأولى بمنطقة الظفرة فى إمارة أبوظبى، إيذاناً بهذا الإنجاز التاريخى، والذى يضع دولة الإمارات فى المرتبة الأولى عربياً، بالنظر لإمتلاكها محطة سلمية للطاقة النووية، ولتصبح أول عضو جديد ينضم إلى القطاع النووى السلمى العالمى منذ عام ١٩٨٥، وهذا ما دعمته واشنطن كحليف لكوريا الجنوبية لموازنة التواجد والنفوذ الصينى فى منطقة الشرق الأوسط من خلال نافذة الإمارات على المنطقة.
لذا جاءت دعوة رئيس جمهورية كوريا الجنوبية خلال منتدى الأعمال الكورى الجنوبى، والذى نظمته غرفة تجارة وصناعة دبى في مارس ٢٠١٩، لكافة المستثمرين الإماراتيين للإستفادة من الخبرات الكورية الجنوبية فى قطاعات إقتصادية رئيسية، مع وفرة فرص الأعمال المتنوعة فى كوريا الجنوبية، وجاء تأكيد الجانب الكورى الجنوبى، بأن دولة الإمارات العربية المتحدة تعد هى الشريك الإستراتيجى للكوريين الجنوبيين فى منطقة الشرق الأوسط، وهى بالطبع محاولة كورية جنوبية للتواجد فى مواجهة المنافسة الصينية المشتعلة هناك لصالح الجانب الأمريكى الذى يسعى لعرقلة نفوذ وأعمال وإستثمارات الصينيين فى كل مكان حول العالم، ولاسيما فى منطقة الشرق الأوسط والإمارات العربية المتحدة فى القلب منها.
وربما جاءت فرصة معرض إكسبو دبى الدولى ٢٠٢٠، كى تشكل فرصة مهمة لجمهورية كوريا الجنوبية لمشاركة رؤيتها مع الزوار والمشاركين الإماراتيين، وللتأكيد الكورى الجنوبى الخفى بتفوقه فى قطاعات تكنولوجية متطورة عديدة فى مواجهة التنين الصينى بدعم أمريكى وغربى للكوريين الجنوبيين.
لذا، فإنه بات من المتوقع أن تشهد الفترة المقبلة المزيد من التعاون فى الكثير من المجالات بين كوريا الجنوبية والإمارات، ولاسيما فى مجالات: تقنيات الثورة الصناعية الرابعة، الذكاء الإصطناعى، بالإضافة إلى القطاعات الحيوية الأخرى. وهذا ما سيشعل المنافسة بالطبع مع الجانب الصينى فى المنطقة.
كما يتوقع من خلال الزيارة حدوث شراكة وتعاون بين وزارة الإقتصاد الإماراتية ووزارة المشاريع الصغيرة والمتوسطة والأعمال المبتدئة فى كوريا الجنوبية، بشأن التعاون فى مجالات المشاريع الصغيرة والمتوسطة والإبتكار. فضلاً عن إهتمام وزارة الإقتصاد الإماراتية والمكتب التنفيذى للملكية الفكرية فى كوريا الجنوبية للتعاون لإعداد نظام متطور لإدارة البراءات فى الدولة الإماراتية. بالإضافة للتعاون فى مجال العلوم بين دائرة التنمية الإقتصادية فى إمارة أبوظبى ووزارة العلوم وتكنولوجيا المعلومات والإتصالات الكورية الجنوبية، وكلها مجالات وقطاعات حيوية للتنافس مع الصينيين.
ومن المتوقع بعد تلك الزيارة لرئيس كوريا الجنوبية، زيادة صادرات الإمارات الرئيسية إلى الجمهورية الكورية الجنوبية، والتى ستشمل: قطاعات النفط الخام والمنتجات البترولية والألمنيوم وغاز البترول المسال. فيما ستشمل الصادرات الكورية الجنوبية الرئيسية لدولة الإمارات المنتجات الإلكترونية الحديثة، والسيارات والمعدات والمنشآت النفطية. ونجد أنه بسبب التوسع فى المشروعات المشتركة بين البلدين، فقد إرتفع عداد الزوار والمقيمين الكوريين الجنوبيين فى دولة الإمارات خلال السنوات الأخيرة.
ومن هنا نخلص لنتيجة هامة مفادها، بأن التحركات الكورية الجنوبية حول العالم كحليف إستراتيجى قوى لواشنطن وللغرب، يأتى محسوباً ودقيقاً فى مواجهة الصينيين ومحاولة عرقلة الصعود والنمو الإقتصادى الصينى حول العالم بمساعدة واشنطن وحلفاؤها فى الغرب. وهو ما باتت تحسب الصين حسابه جيداً فى إطار سعيها الدائم لمراقبة الموقف عالمياً تجاه تحركات واشنطن وحلفاؤها فى مواجهتها.