المسحراتي تلك الشخصية التي ينتظرها الناس كل رمضان لإيقاظهم في موعد تناول السحور ، إنها تلك المهنة الشعبية التي تعتمد على الكلمات والأناشيد والطقوس الخاصة البسيطة، فهي المهنة المحببة إلينا والمحفورة على جدار ذكرياتنا منذ نعومة أظافرنا والتي يرتبط بها الأطفال قبل الكبار ، ولكن هل تعرفون ما هو أصل هذه الشخصية ، تعالوا معي نعرف تاريخ هذه الشخصية .
عندما نقول رمضان لابد أن نتذكر حرفة وشخصية كانت تظهر في الليالي الرمضانية ، و هي شخصية أقرب إلى الفنان الذي يؤدي دور البطولة على خشبة المسرح، مدة ظهوره هي 30 يوما فقط في ليل رمضان، أما باقي الأبطال فهم الطبلة والعصا وصوت جهوري ينادي ويتغنى …اصحى يا نايم ، اصحى وحد الدايم ، وقول نويت بكره ان حييت ، الشهر صايم والفجر قايم ، اصحى يا نايم وحد الرزاق، رمضان كريم”.
من منا لا يذكر تلك الكلمات، والتي أبدع في كتابتها الشاعر الكبير فؤاد حداد، وقام بتلحينها وغناءها الفنان الكبير سيد مكاوي، تلك الكلمات التي كانت عنوان لشهر رمضان الكريم ، و أضحت تراثًا إسلاميًا يرتبط بشهر الصيام.
وكلمة المسحراتي مشتقة من كلمة سحور، والمسحر هي وظيفة أو مهمة يقوم بها شخص لتنبيه المسلمين ببدء موعد السحور، وبدء الإستعداد للصيام، تبدأ تلك المهمة بإنطلاق المسحر قبل صلاة الفجر بوقت كافي، يحمل في يده طبلة وعصا، ينقر عليها صائحًا بصوت مرتفع “اصحى يا نايم، اصحى وحد الدايم”،
فالمسحراتي أو المسحر هي مهنة يطلقها المسلمون على الشخص الذي يوقظ المسلمين في ليل شهر رمضان لتناول وجبة السحور ، والمشهور عن المسحراتي هو حمله للطبل أو المزمار ، ودقها أو العزف عليها بهدف إيقاظ الناس قبل صلاة الفجر وعادة ما يكون النداء مصحوب ببعض التهليلات أو الأناشيد الدينية.
بدأت تلك الوظيفة مع بدء التاريخ الإسلامي، وكان بلال بن رباح، أول مؤذن في الإسلام، اعتاد أن يخرج قبل صلاة الفجر بصحبة ابن أم كلثوم، ويقومان بمهمة إيقاظ الناس، فكان الأول يطوف بالشوارع والطرقات مؤذنا طوال شهر رمضان، فيتناول الناس السحور، في حين ينادي الثاني، فيمتنع الناس عن تناول الطعام.
وأول من نادى بالسحور هو عنبسة ابن اسحاق ســنة ٢٢٨هــــ ، وكان يذهب ماشياً من مدينة العسكر في الفسطاط إلى جامع عمرو بن العاص ، وينادي النّاس بالسحور، وأول من أيقظ النّاس على الطّبلة هم أهل مصر.
قصة المسحراتي في مصر بدأت منذ ما يقرب من 12 قرن مضي، وتحديدًا في عام 853 ميلادية، و انتقلت مهمة المسحر إلي مصر، وكان والي مصر العباسي، إسحق بن عقبة هو أول من طاف على ديار مصر لإيقاذ أهلها لتناول طعام السحور، فقد كان يذهب سائرًا على قدميه من مدينة العسكر في الفسطاط، إلى جامع عمرو بن العاص، وينادي الناس بالسحور.
وفي عهد الدولة الفاطمية كانت الجنود هم من يتولون الأمر ، وبعدها عينوا رجلا أصبح يعرف بالمسحراتي، كان يدق الأبواب بعصا يحملها قائلا “يا أهل الله قوموا تسحروا “
ومنذ ما يقرب من ألف عام، وتحديدًا في عصر الدولة الفاطمية، أمر الحاكم بأمر الله، الناس أن يناموا مبكرا بعد صلاة التراويح، وكان الجنود يمرون على المنازل ويدقون أبوابها ليوقظوا المسلمين للسحور، حتي تم تعيين رجلا للقيام بتلك المهمة، و أطلقوا عليه “المسحراتى”، كان يدق الأبواب بعصًا يحملها قائلاً: “يا أهل الله قوموا تسحروا”.
ولكن كادت مهنة المسحراتي أن تندثر في بلاد المحروسة، إلي أن جاء العصر المملوكي، وتحديدًا في عهد السلطان المملوكي، الظاهر بيبرس، والذي عمل علي احيائها كتراث اسلامي، ولتحقيق ذلك قام بتعيين صغار علماء الدين بالدق على أبواب البيوت، لإيقاظ أهلها للسحور، وبعد أكثر من نصف قرن، وتحديدا في عهد الناصر محمد بن قلاوون، ظهرت طائفة أو نقابة المسحراتية، والتي أسسها أبو بكر محمد بن عبد الغني، الشهير بـ”ابن نقطة”، وهو مخترع فن “القوما”، وهي شكل من أشكال التسابيح، ولها علاقة كبيره بالتسحير في شهر رمضان، ولكنها ظهرت في بغداد في بادئ الأمر، قبل أن تنتقل إلي القاهرة .
كان “ابن نقطة”، المسحراتي الخاص بالسلطان الناصر محمد بن قلاوون، وعلي يديه تطورت مهنة المسحراتي، فتم استخدام الطبلة، والتي كان يُدق عليها دقات منتظمة، وذلك بدلا من استخدام العصا، هذه الطبلة كانت تسمى “بازة”، صغيرة الحجم يدق عليها المسحراتى دقات منتظمة، ثم تطورت مظاهر المهنة، فأصبح المسحراتي يشدو بأشعار شعبية، وقصص من الملاحم، وزجل خاص بهذه المناسبة.
أما أهل بعض البلاد العربيّة كاليمن والمغرب فقد كانوا يدقّون الأبواب بالنبابيت، وأهل الشّام كانوا يطوفون على البيوت ، ويعزفون على العيدان والطّنابير وينشدون أناشيد خاصّة برمضان .
ولكن “المسحراتية” في مصر كانوا يطوفون في شوارع المدينة أو القرية ، يرددون الأناشيد الدينية وينادون الناس ليستيقظوا طالبين منهم أن يوحدوا الله، ويضربون على طار ضربات متوالية حتى يسمعهم النائمون فيهبوا من نومهم لتناول السحور.
«اصحي يا نايم وحد الدايم ، وقول نويت بكرة إن حييت ،الشهر صايم والفجر قايم ، ورمضان كريم»
ويعتبر من أكثر المظاهر التى ارتبطت بشكل مباشر برمضان هو المسحراتى ،الذى يوقظ الناس ليتسحروا ويستعدوا لصلاة الفجر، ورغم ندرة هذه العادة أو ضعفها ، إلا أنها ما زالت مستمرة إلى الآن فى مصر، وأول من نادى بالتسحير “عنبسة ابن اسحاق” سنة 228 هجرية وكان يسير على قدميه من مدينة العسكر فى الفسطاط حتى مسجد عمروبن العاص تطوعا ، وكان ينادى عباد الله تسحروا فان فى السحور بركة ، ومنذ تلك الفترة أصبحت مهنة المسحراتى فى مصر تلقى احتراما وتقديرا ، وذلك بعد أن قام بها الوالى بنفسه ، وأصبحت عادة أساسية فى العصر الفاطمى، فكانوا يوقظون الناس بطرق العصا على أبواب المنازل ، والتي تطورت بعد ذلك ظاهرة التسحير على يد أهل مصر ، حيث ابتكروا الطبلة ليحملها المسحراتي ليدق عليها بدلا من استخدام العصا ، كما ارتبطت بالسير والحكايات الشعبية التي يعشقها الكثير من المصريين مثل ألف ليلة وليلة وابو زيد الهلالي وعلي الزيبق.
وقديماً كان المسحّراتي لا يأخذ أجره ، وكان ينتظر حتى أول أيام العيد ، فيمر بالمنازل منزلاً منزلاً ومعه طبلته المعهودة ، فيهب له النّاس المال والهدايا والحلويّات ، ويبادلونه عبارات التّهنئة بالعيد.
و المسحراتي كان يطوف الحارات والشوارع يطرق على طبلته ليُوقظ الناس، مناديًا كل شخص باسمه اصحَى يا نايم ، اصحَى يا محمد ، اصحَى يابو إسماعيل ، اصحى وصحي النايم ، فيستيقظ من كان نائمًا ، وينزل الأطفال بفرحةٍ يحملون فوانيسهم ويطوفون الشوارع القريبة وراءه مُردِّدين ما يقول بسعادة بالغة اصحى ، يا نايم، وحِّد الدايم ، رمضان كريم .
فمازال “المسحراتي” يرتبط بوجداننا في شهر رمضان صغارا كنا أو كبارا ، ولكنها مازالت المهنة التي لم تنل منها السنين ، فلا زال يوجد في بعض الاماكن وفي الأماكن الأخرى اشخاص تتمنى قدومه وهو يحمل طبلته وينادي عليهم بأسمائهم ليستيقظوا قبل الفجر لتناول وجبة السحور.
وعلى الرغم من شهرة المسحراتي في العديد من الدول الاسلامية ، إلا أن المصريين هم أول من ظهر بينهم من يوقظ الناس للسحور بالطبلة والاناشيد ، وقد كان “المسحراتية” في مصر يطوفون في شوارع المدينة أو القرية يرددون الأناشيد الدينية وينادون الناس ليستيقظوا طالبين منهم أن يوحدوا الله.
قد شغف الرحالة و المستشرقون بهذه المهنة وكتبوا عنها فى كتبهم مثل: الرحالة المغربي “ابن الحاج” الذي جاء إلى مصر في العصر المملوكي في عهد الناصر محمد بن قلاوون ، و تحدث عن عادات المصريين وجمعها في كتاب ، وكذلك المستشرق الإنجليزي “إدوارد لين ” والذي حكى لنا عن المسحراتى فى كتابه المصريون المحدثون ..شمائلهم وعاداتهم، فيقول ، يبدأ المسحراتي جولاته عادة بعد منتصف الليل ، ممسكا بشماله بطبلة صغيرة وبيمينه عصا صغيرة أو قطعة من جلد غليظ، وبصحبته غلام صغير يحمل مصباحا أو قنديلا يضيء له الطريق، ويأخذ المسحراتي في الضرب على الطبلة ثلاثا ثم ينشد ، يسمى فيه صاحب البيت وأفراد أسرته فردا.. فردا – ماعدا النساء- إذا كان بالمنزل فتاة صغيرة لم تتزوج فيقول ، أسعد الله لياليك يا ست العرايس، ويردد أيضا أثناء تجواله على إيقاع الطبلة كثيرا من القصص والمعجزات والبطولات عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو زيد الهلالي وغيره ، ويسعد الناس كثيرا بسماع صوت تلك الشخصية المحبوبة ، وعلى الأخص الأطفال ، وعادة ما يتوارث الأبناء هذه المهنة عن آبائهم .
وتتنوع شخصية المسحراتى ، ويختلف المسحراتى من مكان لاخر ، فمثلا مسحراتى الاحياء الشعبية تجده يحفظ أسماء كل أبناء الحي ، و يقوم بالنداء باسم الأطفال ، حيث أن ذلك يفرحهم كثيرا ،فينتظروه كل ليله ليسمعوا صوته ويطلبون منه ان ينادى أسماءهم،
فيقول: يا عباد الله وحدوا الله،سحورك يا صايم وحد الدايم
يا عباد الله وحدوا الله
قوم ياحمادة وأنت يا عصام
سحورك ليوم جديد..
بالله يا هدى أنت و شيرين
اصحى ياتامر ،السحور ياولاد.
كان الفنان محمد فوزى من الفنانين الذين قاموا بدور شخصية المسحراتى فى شهر رمضان، حيث كان يتغنى بكلمات نظمها عبد العزيز سلام أثناء تجوله فى شارع الفن ليوقظ أصدقائه الفنانين بكلمات رقيقة وهو يرتدى جلبابًا وكوفية وطاقية معممة ، وكان محمد فوزي يبدأ غةغة ة ة ة٥ ٥ةا ة ٥ ا ة قائلاً :
يا عباد الله وحدوا الله .. أدى وقت الاستغفار والطلب من الله …يا أهل الفن ويا أهل السينما .. يا أهل المزيكا والمغنى رمضان جه وده شهر كريم
والصوم فيه بيودى الجنة يا عباد الله .. وحدوا الله .
وقد خص محمد فوزي الفنانين بأسمائهم ومنهم الفنان الراحل عبدالحليم حافظ ،والذي ايقظه على كلمات جاء فيها:
يا عندليب يا أسمر.. ياللي مالكش نظير قوم صلي واتسحر.. يزيد عليك الخير .. صوتك يرد الروح.. وينبه الوجدان ..والطير وسط الدوح.. سمعك بقى نشوان ..يقول معاك يا حليم.. الليل طلع له نهار.. لما تقول يا حليم.. نار يا حبيبي نار ..يا عباد الله وحدوا الله
ومع التطور التكنولوجي، وظهور التليفزيون والراديو، اندثرت مهنة المسحراتي، وفي محاولة لجذب الإنتباه إليه، قام المسحراتي بتدوين اسماء كل من يرغب في النداء عليه لإيقاظة ، ورويدًا رويدًا، بدأت مهنة المسحراتي تطرق أبواب الفنانين والشعراء، أمثال بيرم التونسى وفؤاد حداد والفنان الراحل سيد مكاوى، والذين تولوا مهمة نقل تلك الوظيفة إلي شاشة التليفزيون وميكروفون الإذاعة، ليستخدموا أحدث التقنيات لإيقاظ الناس للسحور ، واتخذت مهنة المسحراتي بعداً فنياً على يد الشاعر فؤاد حداد والموسيقار سيد مكاوي، وفي عام 1964 انطلق مسحراتي الإذاعة وانتظره الساهرون بعد أن اعتادوا سماعه ، ومع انتشار التلفزيون أبدع مكاوي في مزج فن التسحير بالوعظ والإنشاد في حب الوطن ، وأضاف فؤاد حداد بعداً سياسياً اجتماعياً إلى التسحير حينما قال (وكل حتة من بلدي حتة من كبدي ، حتة من موال ، وأنا صنعتي مسحراتي في البلد جوال).