لا شك أن الأيام الأخيرة بشهر شعبان من كل عام، ومع اقتراب بداية شهر رمضان المبارك، نستعيد تلقائيًا أجواء الزمن الجميل حيث الليالي الرمضانية المميزة، بداية من تحضير الزينة وتعليق الفوانيس في حالة من البهجة يشهدها الشارع المصري وفرحة الأطفال بشراء الفوانيس، وانتظار سماع الرؤية في الردايو والذهاب إلى صلاة التراويح.
ذكريات رمضان زمان في مصر، لا تخلو من طقوس تحضير السحور في الليلة الأولى داخل البيوت الدافئة، مع صوت النقشبندي والتواشيح على إذاعة القرآن الكريم قبل انطلاق آذان الفجر، مرورًا بشعائر الصيام وقراءة القرآن، ولمة العيلة على الفطار في انتظار صوت المدفع وانطلاق الآذان بصوت الشيخ محمد رفعت، وغيرها من الذكريات التي لا تنتهي.
رمضان أيام زمان في عيون المصريين له العديد من المظاهر ، منها مازال موجود حتى الوقت الحالي وبعضها اختفى بمرور الزمن، ولكن هذه المظاهر جعلته يظل بذكرياته الجميلة في وجدان كل واحد منا حتى بعد مرور سنوات عدة كانت سببًا في اختفائها .
استلهم العديد من الكتَّاب تجليات شهر رمضان فى كتاباتهم، مما جعل من هذه الكتابات نصوصًا اجتماعية تمثل سجلًا لأحوال مصر عبر العصور المختلفة، فالأدب يسجل دومًا «نبض» الواقع وتفاعله مع الأحداث ، فكان رمضان فى الأدب قيمة لا يمكن إغفالها من خلال ما وصل إلينا من كلمات وقصائد ومواقف لا يزال التاريخ يذكرها، إضافة إلى أن الأدباء يتجددون من خلال إبداعاتهم الرمضانية فى شفافية وروحانية وإيمان بقيمة هذا الشهر، ليس فقط كشهر مختلف عن بقية شهور السنة فى شكله ومضمونه، ولكن من خلال الجرعات الإيمانية الموجوده فيه.
فمن حى الجمالية وبالتحديد من بيت القاضى كتب الأديب الكبير نجيب محفوظ ابن الحارة المصرية، وابن القاهرة القديمة بكل خصائصها ومميزاتها، ذكريات ما كان يدور ببيت القاضى ، الذى كان عبارة عن فرح مستمر طوال الشهر الكريم ، فيقول ما أن يهل الشهر الكريم ، إلا وتبدأ الزينة تعلق على كل ركن ، والأنوار تملأ المكان ، وصخب الأطفال وفرحتهم وركضهم ولعبهم كان يشع على المكان بهجة لا مثيل لها.
فى سن السابعة، بدأ الصبى نجيب محفوظ يُجرّب الصيام لأول مرة، وكان فى هذه السن المبكرة يصعد إلى سطح بيته، وينظر إلى مئذنة جامع الحسين فى انتظار أن يمنحه المؤذن ويمنح المسلمين صك الإفطار، ويؤذن معلنًا حلول المغرب، وكان رمضان هو الشهر الوحيد الذى يُسمح له فيه أن يخرج فى الليل، وأن يلهو بالفوانيس مع أصدقائه ليغنى «وحوى يا وحوى». أما فى الكبر – كما يروى نجيب محفوظ فى حواره مع الكاتب محمد سلماوى والمنشور فى كتاب «وطنى مصر» – أن يومه فى الكبر كان مختلفًا، حيث كان يمضى وقتًا طويلًا فى نهاره فى القراءة، سواء كانت القراءة الدينية أو الأدبية، وكان يلاحظ تذوقه للقراءة خلال أيام رمضان، فكان أعمق بكثير من بقية شهور السنة، فيتساءل «هل يخلق الصيام فى الإنسان نوعًا ما من الشفافية يجعله يصل إلى أعماق قد لا يدركها وبطنه ممتلئ؟ ، أم يعطى دفعة روحية للصائم تظهر علاماتها فى هذا التذوق المرهف؟ ، فقد افتقد نجيب محفوظ، فى رمضان جو الحسين بعد الإفطار .
ويصف محفوظ الجمالية ولياليها ، بأن جميع البيوت الكبيرة فيها كانت تقدم سهرات مديح نبوى وتقرأ فيها التواشيح النبوية بأصوات منشدى العصر ، مثل على محمود الذى كان أسطورة آنذاك ، وكانت بيوت أخرى تفتح «المندرة» للجميع ابتداء من المغرب حين كان يقدم الإفطار ، ثم تبدأ تلاوة القرآن حتى وقت السحور، وكان القراء يتبارون ما بين بيت وبيت، فتتصاعد أصواتهم فى عزف متناغم لا تنافر فيه ، وكان نجيب ينتظر شهر رمضان ليستمتع فيه بالإنصات للقرآن الكريم بصوت الشيخ على محمود، ورأى دائما أن معادلة رمضان لا تكتمل دون جامع الحسين والجلوس على المقاهي .
كان ذلك له عظيم الأثر فى روايات نجيب محفوظ التى دارت أحداثها فى رمضان مثل خان الخليلي والثلاثية (بين القصرين – قصر الشوق – السكرية)، ورواية خان الخليلى خاصة تعد الوحيدة التى شذت عن قاعدة نجيب محفوظ بعدم الكتابة فى رمضان ، لذا ستجد بداخلها كل تفصيلة من ملامح رمضان المتعلقة فى ذهن نجيب محفوظ ، وهكذا كان يمضى نجيب محفوظ شهر رمضان فى الحسين ليلًا إلى أن يحل موعد السحور ، فيتسحر مع أصدقائه على قهوة الفيشاوى الشهيرة ، ثم يعود إلى البيت.
ومع حلول شهر رمضان، عام 1957، خصصت صحيفة الجمهورية عمودًا صحفيًا بعنوان «حديث الصيام»، لعدد من الكتَّاب باختلاف مهنهم وتخصصاتهم، ومنهم الأديب والروائى العالمى نجيب محفوظ، الذى كتب مقالا بعنوان «الصيام طاعة ومحبة لله» ، وكتب نجيب محفوظ فى مقاله: «قالوا فى حكمة الصيام أنه فرض على المؤمنين ، ليخبروا فى أنفسهم آلام الجوع ، فتنعطف قلوبهم نحو الفقراء ، وأنه وسيلة تربوية لشحذ الإرادة واعتياد الصبر ، وأنه سبيل إلى تهذيب نوازع النفس وتطهير الروح».
وفى ذلك قدم الأديب جمال الغيطانى رؤية مختلفه ومميزة أطلق عليها اسم «متتاليات رمضانية» ، ذكر فيها أنه يرى شهر رمضان كرجل أبيض بلحية بيضاء ويرتدى جلبابًا أبيض، ويكشف عن سبب غريب يدفعه لانتظار شهر رمضان سنويًا ، ألا وهو بائع المخلل «البولاقى» ، على عكس الغالبية من الناس ينتظر الجميع الشهر الكريم للحصول على الحلويات الشرقية ، فقد انتظره جمال الغيطانى من أجل مخلل البولاقى ، واعتبره لغزًا وسعى طوال طفولته للكشف عن هويته ، وأين يختفى طوال العام.
يكشف الغيطانى عن جزء غاب عن عالمنا وهو ، لماذا تأتى الكنافة والقطايف طوال العام ومع ذلك لا نلاحظها إلا فى شهر رمضان؟ ، حيث يكمن ذلك السر فى السحر الرمضانى فقط .
ومن الأدباء الذين سجلوا «حالات رمضان» ، الأديب الرائع يحيى حقي ، حيث كتب و يقول: كانت جموع الصبية قبل الكبار تتجمع عند المحكمة الشرعية، حيث ينتظر القاضى وفود الرسل الذين خرجوا لمختلف المراصد والأماكن لرصد قطعة صغيرة من النور ، ليس فى السماء ما هو أرشق منها ولا أجمل، وما أن تثبت الرؤية حتى تدار أكواب العصير وسط هتاف الصبية ، ثم ينطلق الموكب وفى مقدمته ضارب الطبلة فوق حصانه وخلفه المشاة يعقبهم موكب أرباب المهن الشعبية، كل مهنة يتقدمها شيخها يتبعه صبيانه ومعهم أدوات مهنتهم، وما إن يمر الموكب على مسجد حتى تضاء مئذنته ويستمر الموكب حتى تضاء مآذن القاهرة الألف.
يمنح يحيى حقى ذكرياته الرمضانية كتابًا كاملًا أطلق عليه «من فيض الكريم»، أكد فيه على مدى تعاظم شعور الإثارة بداخله عند انتشار سؤال «بكرة صيام ولا لا؟» ، فكانت قمة الروحانيات الرمضانية لدى يحيى حقى لحظة استطلاع الهلال، فيشعر أن رمضان ما هو إلا موكب الرؤية الذى يشهده مع الصبية قبيل رمضان، فمعادلته الرمضانية تكونت من القاهرة يوم رؤية الهلال والمدفع المؤذن ببدء الشهر الكريم.
وعن عادات الناس وسلوكهم فى رمضان، قدَّم لنا يحيى حقى فى كتابه من «فيض الكريم» صورة رائعة لتفاصيل الشعائر الإسلامية، والعادات الاجتماعية التى تعكس جوهر شعوره الدينى، حيث يقدم تفاصيل ليلة الرؤية كما تسجلها عين يحيى حقى الصبى فى بدايات القرن الماضى، فيضعنا أمام هذا الموكب الجميل الجليل الذى يسجل احتفاء شعب باستقبال شهر تطهير النفس والروح والبدن معًا .
ويصف يوسف إدريس فى قصة (رمضان) استعداد الناس فى الريف والأحياء الشعبية لشهر رمضان بتنظيف الطرقات أمام البيوت وشراء فوانيس للصغار وتوفير البن والسكر والشاى وغيرها من لوازم رمضان ، وتمتلئ الأجولة أمام الدكاكين بالياميش وتنشغل الأسر – فى الأيام السابقة لرمضان – بتهيئة المطبخ وتبييض الأوانى وتخزين ما تيسر من النقل والسكر والبصل والتوابل.
فتحدث عن رمضان فى قصته القصيرة «جمهورية فرحات»، لكنه رأى رمضانًا مختلفًا للغاية لم يجد فيه الصورة الملائكية ، وإنما عالجه من منظور طفل صغير يلح على أهله ليقنعهم بالسماح له بالصوم قبل سن الثامنة، واستمتاعه بمشهد المصلين داخل جامع الحسين ، ووقوفه فى الصفوف الأخيرة سعيًا لتزييف صلاته وتصنع الحركة كالمصلين ، إلى جانب انزعاج هذا الطفل من صوت الباعة فى نهار رمضان والخناقات التى يفتعلها بعض الصائمين فى البيوت ، والخلافات التى تنشب بين الصائمين فى الشوارع نتيجة حنقهم من قلة الطعام والشراب والحر وطول ساعات الصيام.
يتابع يوسف إدريس ألاعيب الطفل فى الغش أثناء الصيام وسخطه على جميع المحيطين ، ويرصد يوسف إدريس حالة الإسراف فى تناول الطعام والشراب والاستهلاك غير العقلانى لأى مادة غذائية طول شهر رمضان.
ويرسم لنا طه حسين لحظات الإفطار فيقول: فإذا دنا الغروب وخفقت القلوب وأصغت الآذان لاستماع الأذان وطاشت نكهة الطعام بالعقول والأحلام، فترى أشداقا تنقلب وأحداقا تتقلب بين أطباق مصفوفة وأكواب مرصوفة، تملك على الرجل قلبه وتسحر لبه بما ملئت من فاكهة وأترعت من شراب، الآن يشق السمع دوى المدفع، فتنظر إلى الظماء وقد وردوا الماء، وإلى الجياع طافوا بالقصاع، تجد أفواها تلتقم وحلوقا تلتهم وألوانا تبيد وبطونا تستزيد ، ولا تزال الصحائف ترفع وتوضع والأيدى تذهب وتعود وتدعو الأجواف قدنى.. قدنى، وتصيح البطون قطنى.. قطنى، ومع تعدد أصناف الطعام على مائدة الفطور فى رمضان ، فإن الفول المدمس هو الصنف الأهم والأكثر ابتعاثا للشهية.
فطه حسين وقف بجلاء على هذا الحضور الرمضانى الطاغى فى كتابه «ألوان» والذى عرض فيه لذكرياته مع الشهر الكريم منذ كان طالبًا فى الأزهر الشريف، وكان الطلاب والأساتذة يحصلون على «المسامحة» أى «الإجازة» فيقول: «وكنا نفهم من هذه الكلمة أن النظام الأزهرى أو المدرسى يُسامح المعلمين والمُتعلمين، ويأذن لهم فى أن يستريحوا من جهد الدرس ومَشقة الطلب وخُشونة الحياة، وفى أن يعودوا إلى أهلهم فى المدن والقرى، ليجدوا عندهم أيامًا فارغة، تستريح فيها العقول، وتنمو فيها الأجسام، وتستمتع فيها النفوس بشىء من الرَّوح والهدوء» ، وكان بعض أصدقاء عميد الأدب العربى بعد أن تقدم بهم العمر قد اقترحوا عليه أن يذهبوا لحى لأزهر الشريف لاسترجاع ذكريات شهر رمضان عندما كانوا طلابًا.
أما أمير الشعراء أحمد شوقى فقال عن الصوم فى كتابه أسواق الذهب: «الصوم حرمان مشروع، وتأديب بالجوع، وخشوع لله وخضوع، لكل فريضة حكمة، وهذا الحكم ظاهره العذاب وباطنه الرحمة يستثير الشفقة ويحض على الصدقة، يكسر الكبر، ويعلم الصبر، ويسن خلال البر، حتى إذا جاع من ألف الشبع، وحرم المترف أسباب المنع، عرف الحرمان كيف يقع، وكيف ألمه إذا لذع» ، أيضا أشار أحمد شوقى إلى أن رمضان لا يتعين أن يقتصر على الصيام فقط، حيث قال: بل يتعين علينا الصيام عن العيوب والآثام، فيقول: «يا مديم الصوم فى الشهر الكريم.. صم عن الغيبة يوما والنمــيم» ، وقال: «وصلِّ صلاة من يرجو ويخشى.. وقبل الصوم صم عن كل فحشا» ، ولكننا لا ننسى قصيدة له ألبت عليه الكثيرين وهى قصيدة «رمضان ولى هاتها يا ساقى».
ولمصطفى صادق الرافعى أيضا قصيدة عن رمضان يقول مطلعها: «فديتك زائرًا فى كل عام.. تحيا بالسلامة والسلامِ.. وتُقْبِلُ كالغمام يفيض حينًا».
ويقدم العبقرى صلاح جاهين قصيدة بمناسبة حلول شهر رمضان واصفًا فيه حال الشارع والناس يقول فيها :
النور ملو الشوارع .. ومليون راديو والع
الساعة اتنين صباحًا .. لكين إيه الموانع
الخلق رايحة جاية .. والدنيا لسه حية
مليانة بالهأو أو .. وزعيق القهوجية
واحد يقول لواحد .. خليك ياعم قاعد
التانى يقوله شكرًا.. ده أنا م المغرب مواعد
فيه سهرة لسه عندى .. فى بيت فلان فندى
ح ناكل حاجة حلوة .. ونشرب تمر هندى.