بقلم إخلاص فرنسيس
سماءٌ أخرى
فسيفساء إنسانية نزعة سمو فوق الواقع مبنية من حجارة الحب والجمال والألم الحيّة
إلى من أحبّ
ما بين العنوان “سماء أخرى” والإهداء “إلى من أحبّ” مشاعرُ وصورٌ جمالية تجاوزت المحسوس، نحو علية رفعتنا عليها الشاعرة لنرتقي صرح الحرية، نرتفع عن أرض المخاض إلى ما هو أسمى وأرقى، وهل هناك أصفى من السماء؟ وهل هناك ما يرقى إلى الحبّ الذي يسكن السماء، الحبّ الذي يتجلّى بكلّ أقانيمه الإنسانية والسماوية، وكي يرقى الإنسان إلى تلك الدرجة من الصوفية والإحساس العالي لا بدّ أن يمرّ في أتون الحزن، لأنّ الحزن يصقل مشاعرنا وأرواحنا بناره لتخرج النفس الإنسانية مثل الذهب المصفى في النار، وهذا الحزن المشتعل في موقد الليل اصطفى الشاعرة تحت صفصافه، ومع صوت السفيرة إلى النجوم، ونغمة العتب الرقيق التجلّي يكتمل في رسم الصورة للسيد المسيح، صوره الله آية للحياة، يبعثُ من بين دمع البنفسج نفسًا حيّة، تسربلنا بالروح العلوية، نسير معها في دهاليز الحياة غزالة حلم، في عالم من التناقض ما بين الفضيلة والرذيلة، هذه المعركة القديمة الجديدة منذ بداية التكوين، من يوم سقوط آدم وخروجه من الجنة، ومعه أخرجنا من هذا الوطن سواء أكان الوطن روحيًّا أو أرضيًّا، ومع شرود غزالة ترمح كالحلم تبحث عن وطن، وأيّ وطن أدفأ من صدر الحبيب؟ الحزن والحبّ أقوى محرك للإبداع
نسيج ما بين الصوفية وأجراس الكنائس إلى التلمود، لندخل عوالم الأسطورة مع فينوس الإلهة التي اجتمع فيها الحبّ والجمال والرغبة والخصوبة والرخاء والنصر، فينوس أو أفروديت التي يعتقد الرومان أنّها ولدت من البحر، وأي أسطورة وأغنية تنساب مع النيل إلى مصر، بها تفتتح حيوات أخرى من رحم الأرض السمراء تعلن تاريخها وتكاتفها ووحدانية العبادة في محراب العشق منذ أقدم الدهور، كيف لا وهي كوكب الزهرة المتقد حرارة، ويختال تألّقًا
إلى هياكل الشعر ندخل في كلّ قصيدة ترنيمة صعود، لينقر النور صمت الظلمات، فكلمات النشيد تفضّ حدائق النعناع، محمولة على أكتاف المسافة ما بين الخيال والحقيقة، على سفح جبل التاريخ القديم، زيت يُشفي الجرح، وزيت قنديل ونبراس
إلى المطر، وكم تغنّى به الشعراء، الشاعرة تدعوه ليشاركها النحيب، فقد طالت الغربة، وهدّ الهمّ أعتى الرجال. أسمع تردد السياب قائلًا في أنشودة المطر
وتغرقانِ في ضبابٍ مِن أسى شفيف
كالبحر سرَّح اليدين
فوقه المساء .. دفءُ الشتاء
وارتِعاشةُ الخريفِ
ويهطُلُ المطرْ
كأنّ مطر الشاعرة هو استمرار لمطر السياب الذي طال انتظاره له، وأين منه في انتظار غودو؟
“نُحْ معي يا مطرْ
طالَ هذا السفرْ
عابرٌ ما عبرْ
دمعُ وجدي عبرْ
ما لماءِ المآلْ
هدّ جِدّ الرجالْ
نُحْ معي يا مطر
نُحْ معي يا مطر”
الماء هو عصب الحياة، ما نفع حياة لا ماء فيها، كما النيل شريان حياة مصر، من الماء تستمدّ الشاعرة قوتها، يعمدها المطر بتسابيح السماء، يسحقها الحبّ في معصرته، فتخرج روحها نبيذًا
صور رائعة تترى ، تتراءى أمامي ونحن في مواسم الفصح والقيامة في كرم الزيتون، لتبدأ بالموت رحلة الحياة
ومن خيوط الفجر يدقّ ضوء الصبح أوتاده، أتى الصبح ولكن الظلمة تلفّه، تقرع الأبواب، كي تتقي أنهار دماء تطاردها، وكأنّها تحمل ذنب الإنسانية كلّها، وتريد أن ترمي حمولتها في وجه الصباح، ولكن تبقى الأمنيات طي الريح والصدى الأسود. الطفولة بذرة تملأ تربته، تنمو، وتكبر، وإن لم تدفن حبّة القمح في الأرض لا تأتي السنابل، وإن كانت سنبلة فارغة من السبع العجاف، تبقى هناك حبّة حنطة لم تلوّث في الحمأ المسنون، لأنّها بنت الصباح “نجمة الصبح” ترشد التائهين، فيتحول الليل الطويل إلى زهرة تنام على سرير الكون، وصمت يستجير بأنين أوراق شجر، ترقص على وقع المطر
أتراها ترقص ألمًا أم تيهًا على ضفاف الزمان؟ من يدري، ولكنّها على أبواب الحياة، تائهة تبحث عن حقيقة الوجود، عن ألم الروح والجسد ، الموت والولادة، أسئلة تقضّ مضجعها وفكرها وروحها، فتفتح أبواب النهار، تطلّ منه على الذاكرة في قصائد تاريخية، تستعيد الدهشة الأولى، والحلم الأول ،ولكن تُرى هل يضاهي نور النهار شفق النهاية؟ سؤال وجودي في فلسفة عظيمة تربط بين جدلية الموت والولادة، وهنا تطلق أسراب الحمام، أي الروح في سلام لاستخدام الحمام الذي يرمز دائمًا إلى السلام
تقول الشاعرة، (السلام عليكِ يوم وُلدتِ) وإن كانت استعارت هذه الآية القرآنية، “سلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيّا” ففي هذه الآية تجلّى ما تبحث عنه الكاتبة وإلى كلّ ما تشير إليه، الصراع ما بين الجسد والروح التي تتوق إلى الانعتاق، كي تنجو من هذا القيد
صراع النفس مع النفس وفي النهاية التسليم/ لمن يقضي بعدل
وفي اقتباس اخر للآية القرانية ( للهِ الأمرُ من قبلُ ومن بعدُ)
كل الدلالة على التسليم الكامل، التصالح مع ذاتها ما بين الجسد والروح، وتعترف أنّ لهذا الجسد حقّا عليها، ولروحها جناحان أذنت لهما أن يحلقا بها. وهذه الفسيفساء التي ذكرتها في البداية تجلت في اطلاع للشاعرة الواسع على الكتب المقدسة وشغفها وتأثرها واضح لذا أكثرت من التناص والاقتباس،
في قصيدتها (بنات الكرخ) بين قوسين بنات أورشليم، التي تجسد صراع المرأة الشرقية قديمًا وحديثًا، في قوافل النور وأكتفى بمثالين، توظّف الشاعرة الآيات المقدّسة من سفر نشيد الأنشاد لتصف جمالها وهذا يحسب لها “عيناك حمامتان، خداك رمانُ روضٍ يانعٌ تحتَ النقاب” والآية تقول هكذا: هَا أَنْتِ جَمِيلَةٌ! عَيْنَاكِ حَمَامَتَانِ مِنْ تَحْتِ نَقَابِكِ
واقتباس آخر من سفر نشيد الإنشاد:
خُذُوا لَنَا ٱلثَّعَالِبَ، ٱلثَّعَالِبَ ٱلصِّغَارَ ٱلْمُفْسِدَةَ ٱلْكُرُومِ،
تقول الشاعرة
” ووجدت حراس الطوائف في المدن
تلك الثعالب أفسدت بكر الكروم
فلتأخذوا تلك الثعالب”
إن ضلّ الإنسان الطريق، وإن ضلّ الحبيب عن الحبيب، وإن فتح الصدى فاه، وأراد اقتناص القلب، وإن تعرّى الوجد، ففي فم العصفور كلّ الخبر، يكسر ويجبر، تردّد الصوت، تخلع القلب، إلى النور تجري إلى الحبّ، تشدّها أشعّة صدر الحبيب، لتغرق في النور، ثملة بالحبّ الأبدي، الحبّ الذي لن ينزع منها، متجلية تمسح بشعرها وحرفها دم الأولين ممن استُشهدوا على مذابح الجهل في رقصة الموت والحياة.
ما بين القمع الحريري، ومعاني الكلمات وما بين انخفاض وارتفاع الإشارات التي تتردّد والعبارات يتجلّى الحضور الإلهي، في صرخة القمر، وفي الوقوف فوق الماء، ( ونحن نعلم من مشى فوق الماء) مقطر بالنور، محرّر من الموت بالموت، كاسر القيد بالقيد، خاط من النار وحيدته، نسرٌ يتجدّد عنفوانه، وبالحبّ هي منه وإليه تعود، لأنّها أول قصة حبّ في التاريخ، بين آدم وحواء، من ضلعه أخذت، محدثة هذا الفراغ الذي لن يملأه إلّا حواؤه ولو بعد زمن. هما نغمة الفصول، وأريج البخور من سفر تكوين البدايات، وبهجة الفردوس، هي وهو معًا عشّاق قدامى، يلفهما حكمة الله، محروسان بطوفان الحبّ الذي لا يحدّ، وهل هناك محبّة أسمى من تلك التي تجلت على مذبح العشق والطهارة، الحبّ الذي يحمل رسالة الإنسان، وأغاريد المحبين ، تراتيل عشقية، من مزامير داود إلى كتب موسى وإنجيل المسيح، لتكشف لنا الشاعرة سفرها المليء بالأمل والدعوة إلى سفر القلب (الحب)، وكشف النقاب عن المستحيل، محبة القريب كالنفس، هديل الحمام بين القصائد، ونغم النجوم تضيء الليل، الحبّ هو فلك نوح يقهر أعتى طوفان، وفي الداخل، حمامة تنتظر إطلاقها إلى ذلك القريب البعيد، لتقتنص قبلة الحياة التي تنتظر فوق الشفاه، على فوهة الوجع هناك تخطّ الشاعرة عبارات مموسقة من سحب السماء، وتصوغ في جمان من فضّة نبض القلوب، تفرشها على صفحة اليم، تنثرها لطير السماء وسمك البحر، للقاصي والداني تقول: لا بياض إلّا بياض قلوب تعمّدت بالحبّ
وصقلتها رصاصة زرقاء بلون السماء. أوقفوا الحرب، أسقطوا الراء، ودعونا نعبر على بساط القصيدة الأخضر، هي هويتنا وهوايتنا، هي قيثارة جوهر الوجود،
تقول:” يا حبّ كن لي واحدًا لأكون أكثر
يا حبّ كن وجهًا لأفراد كثيرة
لأكون نقشًا موجعًا في قبلةِ النجمِ المقدّس
دع هئت لي لأكون جوهر”
للشعر كلمته الأخيرة، عند الشاعرة وكأنّه الحكم بين القلوب وبين الناس وكاتب التاريخ ومدون الانتصارات.
إيزيس كبرت، وأصبحت في عمر الفطام، لم يعد الحليب يرويها، لا تكتفي بالفتات، نجم مقدّس في الشرق يوزّع الخبز الأبدي، وفي هذه الصورة تنقلنا إلى الحبّ الموازي لحبّ الله الذي لا يقلّ أهمّية عنه، وهو حبّ الأمّ التي تعطي بسخاء، وتهب روحها في سبيل أولادها في قصيدة شجية لابنها
وللوطن القريب والبعيد نصيب، شرقنا المتعب المهان، موت في كلّ مدنه، بركان لا تنفذ حممه ، هذا الشرق موطن الأديان، ومنه خرجت الرسالات السماوية، فيه الاقتتال وفيه تقطع الرؤوس على الهُوية الديوان حالة فلسفية في سماء أخرى من الحبّ تعلن فيه الشاعرة أنّ الحبّ هو الوطن، ولا وطن دون حبّ وكلّ ما في الأرض وما في السماء يتغنّى بالحبّ الحبّ يبني، والكراهية تهدم لنعش بالحبّ وإن كان لا بدّ من موت فليكن موتًا في الحبّ