فى كل مكان ينتظر الناس مسيحا مخلصا، والهواء متشبع بوعود الأنبياء، كبارهم وصغارهم، غير أننا نواجه كلنا المصير نفسه: فنحن نختزن قدرا أكبر من الحب، ونتوق قبل كل شىء إلى ما يعجز مجتمع اليوم عن تلبيته. كلنا متأهبون لتحقيق هدف ما، لكن لا أحد منا يستطيع قطف ثماره. كارل مانهايم عالم الاجتماع والفيلسوف الألمانى المتوفى عام 1947. وردت هذه المقولة فى كتاب زمن الغضب للكاتب الهندى بانكاج ميشرا، واستوقفتنى بطاقة أمل، جذبت من ذاكرتى ورقة من القرن العاشر الهجرى لمفهوم أكبر للحب، والسلم المجتمعى الذى كانت تعيش فيه طوائف من المسلمين فى حال من الود والألفة فيما يسمى وقتها الزوايا أوالأربطة؛ ولم يكن يفرق بين المصطلحين فى بداية النشأة؛ حيث قام المجتمع المدنى فيهما بدورمهم فى الدعم المادى، ونشر الأفكار والعقائد وإن اختلط هذا الدور بالسياسة فى بعض الأحيان.
فى كتاب التصوف الإسلامى فى الأدب والأخلاق للدكتور زكى مبارك يذكر لنا دورالزوايا وشأنها العظيم فى دعم الفقراء، وقدرتها على تحريك المجتمع كقوة فى صلبه تميزت بالترابط الاجتماعى،والاستقلال عن السلطة السياسية؛ وإن ارتادتها طوائف من مريدى اتجاهات التصوف وطرقه فإنها قامت بدور فى الإيواء والتعليم. وقد كثرت حتى ذكر على مبارك باشا فى خططه إقامة العشرات منها فى القاهرة. كان من رواد هذه الزوايا طائفة من الفقراء، وأسر كاملة من رجال ونساء وأطفال تفرد لهم أجنحة للإقامة؛ فضلا عن مريدى التصوف.
ومن الرباطات رباط بالقاهرة سُمِّى البغدادية كانت توضع فيه النساء المطلقات، أواللاتى هجرن حتى يتزوجن، أو يرجعن لأزواجهن؛ صيانة لهن وكفاية لحاجاتهن، وذلك بفضل ما كان فى هذه الأربطة من شدة الضبط وغاية الاحتراز، والمواظبة على العبادات. وقد عقد د. زكى مبارك مقارنة بين دور الرباطات الاجتماعى،و بعض أديرة الراهبات كدير جيوارجيس فى الموصل؛ فوقف على تشابه فى الدور الاجتماعى فى رعاية الضعفاء وذوى الحاجات. كما كانت هناك بعض الزوايا تضم ذوى الاحتياجات الخاصة – ففى رباط أبو المواهب عبدالوهاب بن أحمد المعروف بالشعرانى المتوفى فى سنة 973 هجرية- نجد ثلاثين من العميان، وقد يصل رواد الزاوية الواحدة لأكثر من خمسمائة مريد كزاوية الشيخ حسن رضوان ببلدة السريرية.
وكانت الأرزاق تجرى على القاطنين بالزوايا ليل نهار، مما يهدى من أهل الفضل للمسئول عنهم من المشايخ المشهود لهم بالعدل فى تقسيم العطايا بين الفقراء. ومن سمات العدل ألا يخص الشيخ أحدا بشىء زائد إلا إذا رَقّ لحاله الفقراءُ، ويحظرعلى الشيخ أن يأخذ شيئا لنفسه أو لولده وإلا تذهب رئاسته. ويتولى التقسيم على الفقراء شخص يلقب بالنقيب ويكون تحت الشيخ منزلة. وتحتاج الزوايا مرسوما سلطانيا لإقامتها، وإلا يتم تصفيتها، حيث كانت تمثل شكلا من أشكال العصبية الطائفية.
فمن يتحكم فى أرزاق الناس يسوسهم. وفى العصر الحديث وعت بعض التيارات المتشددة الدرس التاريخى، فسدت حاجات الناس وتسيدت المشهد فى لحظة ضعف، ومالبث أن عاد المجتمع إلى رشده وعدّل مساره، وحتى لا نكرر الأخطاء أدعو أصحاب المروءة فى هذا الوقت العصيب للتعاضد المجتمعى.