القارئ العزيز .. هل تعتقد أن أزمة تراجع الوعي مجرد أزمة داخلية ؟ وأن تفشي الأمية الثقافية وتعاظم التعامل بفكر سفيه، وتفاهة وتخبط هو ناتج عن تقصير مباشر نابع من داخل المجتمعات أم هو تطور طبيعي لانتشار العولمة بمناحيها المختلفة ؟! سنجاوب من خلال هذا المقال بالأدلة عن سبب وجودنا داخل هذه الأزمة الكارثية، شرط عدم إخلاء مسئولية المجتمعات تماما من تدهور الوضع ووصولنا لما نحن فيه اليوم .
تناولنا خلال عام ثلاث قراءات غاية في الأهمية، وتم نشرهم فى سلسلة من المقالات السردية البسيطة، تهدف لعرض المعلومة دون الإخلال بالمضمون، واستكمالاً لهذه القراءات كان هناك ما لم يسعفني الوقت لنشره، لكننى سآتي على ذكره لما له من أهمية تؤكد على مضمون المقال الذي هو أيضا فحوى إصداري القادم .
وما قمت بنشره وشرفت بمتابعتكم له كان قراءة في إصدار “المتلاعبون بالعقول” للكاتب الأمريكي “هربرت شيللر” صدر عام 1973م، ثم كتاب “نظام التفاهة” للفيلسوف الكندي “آلان دونو” والذي صدر عام 2017م، ثم كتاب “الثقافة فريضة غائبة للمفكر المصري د.أسامة أبو طالب.
إذا قمنا برصد المضمون نراه يسير على منهج مستمر، يتطور دون انقطاع بدأ قبل تاريخ صدور “المتلاعبون بالعقول “بالسبعينيات” كنموذج كشف من خلاله الكاتب الأمريكي خطة السيطرة والهيمنة الرأسمالية على عقل وإرادة المتلقي “المواطن الأمريكي” حسب سياق الكاتب ذلك الحين، ثم تأكيداً على استمرار هذا الخط الممنهج كشف كثير من الكتاب والفلاسفة حول العالم ما يدور حول هذا الفكر المسيطر، إلى أن ظهر في الجيل التالى بعد ما يزيد عن أربعة عقود، الإصدار الذى أثار جدلاً واسعاً إلى اليوم للفيلسوف الكندي “آلان دونو”، فمسك بطرف الخيط ليصل بالقارئ إلى حقائق دامغة لاختراق رؤوس الأموال ورجال الأعمال والمال والصناعة والمصالح للمؤسسات التعليمية والإعلام، وصناع القرار والبحوث والإبتكارات العلمية والإستراتيجية، وبالتالي عالم الإنترنت، والمعارك السيبرانية، والتجارة بكل ما هو مسموح أو ممنوع، والأخطر هو أن البضاعة المستخدمة والمستهدفة هى “المواطن نفسه” في كل مكان، ذاكراً الكثير من النماذج الشهيرة بالأسماء والتواريخ بكندا وأمريكا ودول الغرب وحول العالم، مما أدى إلى تعاظم ثروات بعض الأفراد لدرجة تعدت ميزانيات دول !! مما جعلها اليوم تتحكم في إدارتها وتوجهاتها السياسية والعسكرية أيضاً .
وكان ومازال الإعلام وطمس الثقافات، الأسلحة الأكثر فاعلية على وجه الأرض لغسل العقول من القيم الإنسانية والأديان والعقائد لتسطيحها، واستخدام الغرائز في شيطنة الأفكار، وقتل البراءة في الأطفال للتحكم في المتلقيين كقطعان مغيبة، المدهش فعلا أنهم بدأوا بشعوبهم أولاً (برجاء مراجعة الإصدارات) .
أما ما يخصنا اليوم هو مايحدث من إحلال وتبديل لمفاهيم مغلوطة، اختراقا لوجدان مراحل عمرية مختلفة داخل مصر ودول المنطقة، دون اعتبار أن لكل ثقافة مجتمعية خصوصيتها التى تختلف عن غيرها ويجب إحترامها، وعرضنا نموذجان فقط من قلب أحداث التغيير وكشفهما لمساوىء العولمة بأمريكا وكندا ودول الغرب.
نأتي إلى ربط الرصد المصري والعربي لما يستجد من تراجع توعوي وثقافي بالعقود الأخيرة، وانتشار التفاهة وتغييب القدوة، وتسطيح العقول فكانت هناك دراسات متعددة من خلال ا. د عايدة ابراهيم السخاوي واستعنت بدراستها – بأواخر التسعينيات – ضمن مراجع بحثى المقدم بمؤتمر أدباء مصر 2019 تحت عنوان” أثر التجمعات والحركات الثقافية في الحراك الثقافي والوعي المجتمعي” وقد قامت بتشبيه عقود الإعلانات مع القنوات، كعقود إذعان تحتل بيوتنا وتقودنا إلى حيث تريد ! ، ثم التليفزيون المصري وتكريس مفاهيم المجتمع الإستهلاكي ومستقبل التنمية بمصر، كما أشار الكاتب الكبير يوسف القعيد بجلسات الحوار الوطني إلى أن مصر تحتاج إلى وقفة ويجب الإهتمام بمحو الأمية، ونشر الثقافة بين أبناء القرى والنجوع، هناك أيضاً كتاب “الثقافة والتثقيف ” ورؤية في الاستراتيجية والآليات للكاتب “نجدي الخميس”، أما عن الثقافة والإعلام ودور القوة الناعمة في الحفاظ على تقدم وأمن الدول ضد التحديات التى تواجهها وتقدمها، فكان إصدار الكاتب والمؤرخ جمال النجار تحت عنوان “القوة الناعمة وفلسفة الحرب” وغيرهم الكثير من الكتاب والمترجمين العرب من المحيط للخليج، وجنسيات متعددة راصدة لخطورة حركة التراجع الثقافي والتوعوي وتداعياته على شعوب العالم.
ونأتي على الرابط الثالث وهو قراءة في كتاب “الثقافة فريضة غائبة” للكاتب والمفكر المصري د. أسامة أبو طالب الراصد بتخوف لكل التداعيات المحيطة بمصر والمنطقة العربية، من محاولات متسارعة لإبتلاع الهوية المصرية، والثقافات والحضارات القديمة بالمنطقة، مسلطاً الضوء على التمسك بالثقافة ولغتنا العربية والتعليم، متفقا مع الأديب والمفكر الراحل د. طه حسين بإنهما طوق النجاة للأمة، مضيفاً أن التمسك بالتعليم زاللغة والتراث والتقاليد والعادات، فيهم النجاة من سلبيات العولمة، والتراجع التوعوي والثقافي للعب بالعقول وزرع المفاهيم الخاطئة، ونشر التفاهة والسلبية والبلادة بوجدان مجتمعاتنا، مطالبا بالتطور الثقافي والمزج المدروس بين ما نملكه من ثقافة تقليدية، وبين ما يحدث من حداثة وتطور دون الإخلال بجذورنا الأصيلة، فليس من العقل أن يستمر العالم في التطور دون تحديث لثقافتنا لمواكبة المناسب الإيجابي منها، هذا هو السلاح الفعال في مواجهة سلبيات العلمانية واكتساح الذكاء الإصطناعي لثقافات الشعوب وقدراته على طمس الحقائق، والتلاعب في الإبداع الأدبي واللغة، والتاريخ والتزوير الفج لمصلحة التعاظم الإقتصادي السلطوي المتحكم بمصير الكون .
الحفاظ على لغتك الأصلية اليوم كالقابض على الجمر، و لولا تدوين لغتنا المصرية القديمة كما جاء في إصدار الراحل د. عبد الحليم نور الدين ” اللغة المصرية القديمة” واستخدامنا لبعض مفرداتها مثل ( حا- تاته – كركر- يبطط – مكحكح – حبة حبة – بح – فط .. وغيره )، كما أن ما حافظ على لغتنا المصرية القديمة، والمسماه ذلك الوقت ب “بفم مصر، لسان مصر، أو كلام الآلهة، الكلام المقدس” أما لفظ – هيروغليفي- فهو نوع الخط الذي استخدمه الكهنة للتدوين على جدران المعابد، كما ساهم في فك طلاسم لغتنا، حفاظ الكنائس المصرية على اللغة القبطية التى تتضمن تدوينها على “سبع حروف من الخط الديموطيقي” وهو الخط العامي يالقرن الثامن قبل الميلاد، والتى دونت بحروف يونانية، مما يسر لشامبليون ولعلماء المصريات فك طلاسم حجر رشيد، وكما أوضح “ديفيد كريستال” في كتابه “مختصر تاريخ اللغة” : عندما تندثر ثقافة شعب فهناك الكثير مما تخلفه، ينبئ بحضارتها ما عدا “اللغة المحكية” فهى لا تترك شيئا وراءها، لاختفاء من تحدثوا بها، فهي لم تموت بسبب تسونامي أو تعرضهم لكوارث طبيعية، بل بسبب عدم التمسك بها اوتدوينها وتداولها.
إذن وبكل بساطة، كلما قل تمسكنا بعناصر ثقافتنا، وكلما إزداد الجهل وانتشرت التفاهة والفوضى، وانعدم الوعي بقيمة تراثك وجذورك، وأهملت الثقافات الأصيلة، كلما كان هذا في صالح ناهبي هويتك وفكرك وخيراتك وانسانيتك، فهل تختار التبلد مع الثقافة التقليدية ؟ أم التمازج بين التقليدي العلماني دون التخلى عن الأصولي ودمجه مع العصري المناسب لثقافتك ؟ أم الإنسياق خلف علمانية ” شرهة موجهة” كقطيع فاقد البوصلة .. ولك القرار . ِ