بقلم د : علاء جانب
الحرية حبيبة الشعر ، لا يمكن أن يكون له معنى ولا أن يتحقق له جوهر إلا بها .. والشاعر لا يصلح أن يكون عصفورا أو سمكة للزينة .. العصفور يحتاج إلى جو يبسط فيه حناحيه ليغرد .. ويذهب ويجيء .. ستكون زينته الحقيقية في طيرانه وانحداره وارتفاعه وهبوطه الطبيعي… السمكة تحتاج إلى بحر تبسط فيه زعنفتيها وتفتح خياشيمها وتفعل حركات الحياة ..
الشاعر يستسلم للحب، لعيني امرأة، لقضية بلاده .. لكنه لا بد أن يحظى بالحرية والتقدير .. الوظيفة قيد .. والمال قيد .. والتابوهات الثلاثة قيود .. والبيت والأولاد قيد .. والحاجة قيد .. والمحتسبون الذين يقفون بالمرصاد لطيران الشعراء قيد .. والتلقي الخاطئ عن الشاعر قيد .. والخوف قيد .. وعدم تقدير الشاعر قيد .. والإحباط قيد .. فمن أين يأتي الشعر ؟!
سألت نفسي مرةً لماذا أهيم بالشعر الذي كان في الجاهلية .. ؟ لما يسحرني امرو القيس ، ويطربني زهير بن أبي سلمى ، وأشعر بالحماسة مع عنترة وعمر بن كلثوم .. ويغريني طرفة بن العبد بالتفكير وأهيم مع المرقشين الأصغر والأكبر وأرفع رأسي مفاخرا بالإنسانية الاجتماعية مع لبيد بن ربيعة ؟!! لم أجد تفسيرا لذلك إلا الحرية !!
والحرية نوعان : حرية نختارها بين مفروضات حياتك أعني حرية اختيار القيد .. وحرية طبيعية أعني بها حرية اختيار الموت .. الثانية هي التي تزهر الإبداع وتزدهر به… واختيار الموت لعله أهون من اختيار القيد عند الحر .. قصيدة الشعر الحقيقية نفثة لا تتكرر .. وكل قصيدة حالة لا تعود إذا طارت .. وكل شاعر يعرف ذلك في نفسه ويعده عند حساب قصائده في ديوانه قصائد قليلة تلك التي تنتج عن طيران حر حين تلامس أجنحة القلب جوّ سماء العبقرية وتنتفس في القمة أكسجين الحرية .. هناك اثنان أوشكا أن يغيبا وسط ركام الزيف .. أحدهما الشاعر الموهوب والآخر الناقد البصير
لقد امتلأت صفحات وترِعت حتى فهقت وجشأت بالامتلاء .. ولقد طُبعت كتب حتى ضاقت المكتبات وغلا ثمن الورق .. وكل ذلك زيف لو وجد ناقدا بصيرا لأصدر قرارا بإحراقه أو إعدامه لاستخدام أوراقه في إعادة تدوير القمامة .. ولعلي واحد ممن سيقدمون ذات يوم على إحراق ما كتبوا رغم أني لا أكتب شيئا إلا وهو من دم القلب سواء كان شعرا فصيحا نموذجيا أو شعرا قريبا شعبيا ..
سألني مرة أستاذنا الدكتور محمد محمد أبو موسى وكان صاعدا سلم مدخل الكلية وكنت نازلا : كيف حالك يا علاء ؟
قلت: بخير يا أستاذنا قال : وكيف حال الشعر ؟ قلت : يقاوم ثقل الماء فقال: الشعر لا يعيش بدون الحرية .. ثم تصافحنا وصعد ونزلت السلم كلّ إلى شأنه .. لكن كلمة الشيخ ظلت تعتمل في وجداني فقلت أي حرية يقصدها الشيخ؟ آلحرية السياسية؟ أم الحرية من القيود التي أشرت إليها في كلمتي هذه قبل سطور؟ لكن قرّ في نفسي أنها حرية الروح .. من كل عبودية إلا عبودية الله تعالى ..
ستظل شاعرا ما دمت حرا .. لكن الحرية إن توفرت لنظّام ممن يرصون الكلام رصاً فسيكون الحال كزواج على غير حب .. لأن الادعاء قيد قاتل للمجتمعات إذا فشا وانتشر .. المدعي إذا ذاع صيته أصبح هو الأصل .. فحرم المجتمع تذوق الإبداع وعودهم على الزائف وهذا من أكبر مخرّبات الأمم وهوادم الثقافات ..( أتذكر الآن قصة البهظ بيه والشاي المغشوش في فيلم الكيف) والموهوب الحقيقي إذا رأى ذلك ركن إلى جدار الإحباط فذبلت وروده وارتخت أجنحته فكلما أراد التحليق سقط ..