بقلم د/ شيرين العدوي
سأحكى لك عزيزى القارئ سيرة عصماء لأحد شرفاءمصر وهو المستشار بهاء المُرى الذى ذاع صيته إثر قضية نيرة أشرف, الفتاة العشرينية التى ذبحها زميلها محمد عادل. لقد وقفت أمام هذا المستشار وقفتى تأمل وإعجاب بذكائه وعدله: مرة لما أجلس القاتل بكل رحمة محدثا إياه حديث الأب للابن الضال, فراح يحكى بكل أريحية ما حدث، لتطمئن هيئة المحكمة الموقرة لشهادة القاتل على نفسه.
ومرة أخرى عندما حاول فصيل الإخوان زعزعة النفوس تجاه القضاء، وقلب القضية رأسا على عقب بالوقوف مع القاتل ضد المغدور بها، فما كان إلا أن حكم هذا القاضى بما تقتضيه عدالة السماء بكل جسارة، وأتذكر يومها – ولم أكن قد قرأت له أو عرفته – أنى استمعت إلى الحكم داعية له من قلبى، منهمرة دموعى، مؤمنة بوطنى وقضائه، مشنفة أذنى ومستمتعة باللغة العربية التى لم أسمعها منذ زمن طويل، منذ زمن العمالقة، بعدما استهتر من هم فى بعض المراكز المرموقة بها وبقواعدها، معبرين عنها إما بلغة ركيكة أو مستعينين بلغات أخرى، حتى باتت تلك اللغات تعبيرا عن التفتح والثقافة، والطبقة الاجتماعية العالية، متهمين اللغة العربية بالصعوبة والتقصير.
ولست ضد إتقان كل اللغات ولكن عندما تعتز بلغتك فأنت مواطن من الدرجة الأولى، تعبر عن هويتك الوطنية، وقيمتك الإنسانية. ومن حسنات رئيسنا عبدالفتاح السيسى أنه يصر على استخدام اللغة العربية السديدة فى كل لقاءاته مع كل رؤساء العالم. وانظروا إلى دولة الاحتلال كيف أقامت هويتها بإحياء اللغة العبرية المندثرة. فيا أهل اللغة لا تضيعوا كنزكم الثمين مقلدين عدوكم متبعين أفكارهم.
ربما أخذتك عزيزى القارئ بعيدا بعض الشىء عن موضوعى الأساسى، وهو سيرة القاضى بهاء المرى، وإن كنت لم أبتعد كثيرا، فالسيرة تأخذك بنصاعة فكرها ولغتها الحكيمة معبرة عن حقبة من مصر الحديثة ربما استمرت ستين عاما، مرت فيها بنهاية عصر جمال عبدالناصر، وحكم أنور السادات وانتصار أكتوبر، وعصر حسنى مبارك مرورا بالثورتين وحكم الرئيس السيسي. لقد قارنت السيرة من خلال تحرك الكتلة السردية بين عصور مختلفة من خلال حياة اجتماعية لأسرة مصرية مرموقة وأصيلة من طين مصر الطاهر؛
فالجد من ناحية الأم هو واحد من أشهر مشايخ الأزهر الشريف الشيخ محمد عبدالسلام شبل، والأسرة منسًّبة للبيت النبوى الشريف، مات عائلها وهى مازالت فى سنى التكوين وكان مدرسا مرموقا يتنقل بين محافظات مصر على حسب الوزارة، وترملت والدة قاضينا، وتيتم أبناؤها وهم أربع بنات وولد بطل سيرتنا، وهى لم تبلغ سن الثلاثين من عمرها بعد. انتقلت الأسرة فى السنوات الأولى للمعيشة إلى بيت الجد ليحكى لنا المستشار فصل اليتم، وتعجبت ممن حاولوا التشكيك فى حكم نيرة أشرف، كيف استند المرجفون لمساعدة القاتل بالاعتماد على يتمه؟!
فبعدما قرأت السيرة رأيت يتيما عانى مرارته يحكم على يتيم آخر, فهيهات بين اليتيمين فى النشأة والتربية. لقد كانت بطلة السيرة والدة السارد؛ لكن زوجه التى عاش معها أجمل قصة حب منحته عمق المشاعر وسبعة أبناء فكانت بطلة ثانية بحق، وللحديث بقية.