أخبار عاجلة

العالم والخليفة .. بقلم كلا من ..  زينب عبد الباقي والدكتور محمد فتحي عبد العال

بقلم : الاستاذة زينب عبد الباقي

كاتبة لبنانية

وقلم :  الدكتور محمد فتحي عبد العال

كاتب وباحث وروائي مصري

 

لم تكن زينب معلمة تقليديّة تتبع ما تقدّمه المناهج التعليميّة فحسب بل كانت تطعّم دروسها بكلّ ما يحيط بالموضوع من طرائف ومعلومات مدهشة تثير اهتمام طلّابها وتروي شغفهم للمعرفة وكانت العبارة المأُثورة التي تردّدها على الدّوام :” المعرفة بناء”.

 حين انتصف العام وحان وقت الإجازة، قدّمت زينب إلى إدارة المدرسة خطّة لزيارة الأماكن السياحيّة المبهرة في مصر، إيمانًا منها بدور هذه الرّحلات في ترسيخ الحسّ الوطنيّ في نفوس النّاشئة ، فتمّت الموافقة عليه فورًا، وكانت أولى محطاتها في ” السدّ العالي” : الحلم الذي تحقّق بفضل كفاح المصريّين وتعاونهم حكومة وشعبًا، كبارًا وصغارًا، رجالًا ونساء. وما إن وصل الطّلاب إلى مدينة أسوان حتى هالهم منظر السّدّ الضّخم فبدأت زينب تحرّك شهيّتهم للمعرفة وقالت:

من منكم يا أعزائي يعرف من الذي كان وراء هذا الأثر الخالد ؟

أجابها معاذ : إنّه الزّعيم جمال عبد النّاصر وقد افتُتح  المشروع بعد وفاته عام 1971

أردفت : وهل تعرف أصل هذه الفكرة ؟

صمت معاذ وهو يقلب شفته السّفلى فقال لها حسين : قرأت  في كتاب أنّ بداية الفكرة كانت مع الخديوي عباس حلمي الثّاني صاحب خزّان أسوان القديم الذي كان أعظم سدّ في العالم آنذاك وافتتح عام 1902 

ابتسمت زينب ابتسامة رضى وقالت : هذه معلومة رائعة يا حسين، وأظن أنّ الكثيرين لا يعرفونها ولكنّ الفكرة ولِدت قبل ذلك بكثير .

دهش الطّلّاب وساد الوجوم فأطرقوا يرتقبون واحدة من حكايات معلّمتهم المثيرة وكأنّ على رؤوسهم الطّير .

قالت زينب: البداية كانت في عهد الخليفة الفاطميّ الحاكم بأمر الله .

ابتسم مصطفى فقالت زينب : أظن أنّ وراء الابتسامة خبرًا مشوّقًا. أتحفنا يا مصطفى.

فأجاب: عندما سمعت اسم الخليفة الفاطميّ الحاكم بأمر الله تذكّرت قصّته مع الملوخيّة التي أُعجِب بطعمها فاختصّها لنفسه ومنعها عن شعبه.

قالت زينب وهي تضحك : ألن تغيّر عادتك يا مصطفى ؟ التّفكير في الطّعام هو شغلك الشّاغل على الدّوام. أظنّ أنّك ستصير طبّاخًا شهيرًا في المستقبل.

أجابها : يمكنك أن تراهني على ذلك وسأكون متخصّصًا في تحضير الأطباق المصريّة الشّهيّة  وخاصّة الملوخيّة التي لن أحرم أحدًا منها كما فعل الخليفة. ترى بماذا كان يفكّر حين فعل ذلك؟

قالت زينب: لست أدري، لكنّي أعلم أنّه كان حاكمًا غريب الأطوار، متقلّب المزاج . هل تعلم   أنّ له قصّة شهيرة مع العالِم الفيزيائيّ الحسن بن الهيثم ؟

قال مصطفى : تقصدين العالِم العراقيّ الذي كان يقيم في البصرة وقد وصلت أخبار نبوغه إلى مصر ؟

زينب : بالضبط . هل لديك ما تزيده عنه ؟

أكمل مصطفى : كلّ ما أعلمه عنه هو أنّ له باع طويل في علم البصريّات والعدسات . كما أعرف أنّه قدّم وصفًا تشريحيًا لوظيفة العين كنظام بصريّ كامل وله كتاب شهير اسمه “المناظر “

هتفت زينب مبتهجة بتوقّد ذهن مصطفى ومطالعاته الكثيرة : بوركت يا مصطفى ، لو كان الأمر بيدي لأسميتك ” الموسوعة المتنقّلة ”

قال مصطفى : هذا بفضل تشجيعك أستاذتنا .

والتفتت زينب إلى طلّابها وهي تقول : أريد من الجميع أن يحذوا حذو مصطفى في النّهل من ينابيع المعرفة .

وأكملت : المهمّ .. حين سمع الخليفة أنّ الحسن بن الهيثم أبدى اهتمامه بعمل شيء يعود بالنّفع على النّيل ، شريان الحياة في مصر، أرسل في طلبه فاتّجه إلى القاهرة حيث استقبله الحاكم بأمر الله على بابها عند قرية الخندق . ثم وضع تحت تصرّفه أمهر الصّنّاع في دولته. ولكن .. كما يقول الشاعر : تأتي الرّياح بما لا تشتهي السّفن .

قال معاذ  مستغربًا : ماذا حصل يا أستاذة ؟

تابعت : سيطر على ابن الهيثم إحساس غريب بالعجز عن تنفيذ ما أوكل إليه

قال معاذ: لا شكّ أنه خاف من الفشل حين عرف أنّ الحاكم بأمر الله حاكم غير مأمون الجانب، وأنّه لن يتقبّل مفهوم التّجربة العلميّة واحتمالات الاخفاق فيها مرّة بعد مرّة حتى يتحقّق النّجاح . وإذا كتب لهذه التّجربة الفشل فسوف ينكّل به الخليفة ولن يقبل منه عذرًا.

قالت زينب : تمامًا يا معاذ .

وهنا قال مصطفى : قرأت من قبل أنّ مشاهدة ابن الهيثم لآثار الفراعنة كانت من أسباب فتور همّته، لأنّه شعر أنّ هذا الأمر مستحيل ، ولو كان ممكنًا لبادر بُناة الأهرامات إلى تنفيذه .

قالت زينب : هذا أمر وارد أيضًأ ، فالوقوف أمام عظمة الأهرامات يحرّك في دواخلنا الشّعور بالتّضاؤل . حين وقفت أمامها للمرة الأولى تملّكني شعور لا يوصف . لكنّ هذا الشّعور لم يخفّف من عزمي وعزيمتي على العكس كان سببًا في اختياري لاختصاص أحببته وبرعت فيه .

قال مصطفى : إنّها الثّقة  يا أستاذة .

أجابته : أحسنت . . و ثقة العالم بعلمه وبأدواته أمر هامّ لتحقيق النّجاح ، وإن قلّت الإمكانيات وندرت . فالتّحدّي سمة العلماء .

قال حسين : وكيف انتهت مشكلة ابن الهيثم بعد أن صار بين شقّي الرّحى ؟

 أوضحت زينب  : قرّر الخروج من هذا المشروع بأية وسيلة تحفظ حياته، فالخليفة لن يرحمه إن فشل .

قال معاذ بحماس : وماذا فعل ؟

ردّت : لم يكن أمامه إلا ادّعاء الجنون حتى يحمي حياته من انتقام الخليفة

استفسر حسين : وهل نجح في ذلك ؟

فأجابته زينب: بكل تأكيد ، حتى انطلى الأمر على الحاكم فاكتفى بتحديد إقامته في منزله .

قال حسين : نهاية مؤسفة لعالم جليل .

قالت زينب وهي تربّت على كتفه : لا تقلق، فقد احسن ابن الهيثم استغلال هذه الفرصة وتفرّغ للكتابة وهكذا نقش اسمه على درب الخلود وقدّم مؤلفات في الفلسفة وعلم النّفس والموسيقى والهندسة والفلك  والعلوم الدّينيّة جعلته محطّ احترام العالم عبر العصور .

تمتم حسين : سبحان الله ، ربّ ضارّة نافعة .

قالت زينب : كان لابن الهيثم مبدأ يصلح للعلماء في كلّ مكان وزمان 

صرخ الجميع بصوت واحد : وما هو هذا المبدأ ؟

أجابت : إن أفضل وسيلة للتقرب من الله هي السّعي صوب المعرفة والحقيقة ، فهنا مكمن الرّسالة  ونبل الهدف

و في تلك اللّحظة كان النّهار قد شارف على الانتهاء، فحمل الطّلاب ما خبّأوه في عيونهم من مشاهد ، وما زرعوه في نفوسهم من مشاعر ، وما استقوه لعقولهم من روافد، وما اكتشفوه في حناياهم من قدرات . وشكروا معلمتهم على هذه الرّحلة الرّائعة  والأحاديث الشّيّقة و المعلومات الهادفة وقد أخذوا منها وعدًا بالحديث عن تاريخ السّدّ العالي في الحصّة المقبلة .

 

استاذة زينب عبد الباقي كاتبة لبنانية

الدكتور محمد فتحي عبد العال كاتب وباحث وروائي مصري

الغردقه - شارع الشيراتون القديم بجوار فندق روما علي البحر - تليفون  0653447115  موبايل  - 01020238453

عن heidi1news

شاهد أيضاً

حياتي كشريط فيلم

بقلم: آية شريف تم النشر بواسطة:عمرو مصباح يتضمن مشاهد متنوعة، من فصول الطفولة البريئة إلى …