بقلم : الأستاذه زينب عبد الباقي
كاتبة لبنانية
الدكتور محمد فتحي عبد العال
كاتب وباحث وروائي مصري
بين سنواته السّبعين وسنواتها السّبع حكاية خير وحبّ وعطاء. هو:”الشيخ حارث”، ذلك الرّجل الكريم الفاضل،الذي خطّت السّنوات أحداثها على جبينه العريض وتركت آثارها على ملامحه الطّيّبة. وهي”بثينة ” الطّفلة المهذّبة التي تحبّ جدّها حبًّا لا يوصف و ترافقه في كلّ خطواته.
كان الجدّ وحفيدته يسكنان في حيّ ” الصّليبة” أقدم أحياء اللّاذقيّة، في البيت الذي جمعهما بعدما ماتت زوجته واختار أبناؤه طريق الهجرة. وكان من عادة الجدّ في شهر رمضان أن يصطحب حفيدته إلى المسجد حيث يوزّعان الطّعام على المحتاجين والفقراء ثمّ يمضيان اليوم في باحة المسجد لأنّ الجدّ كان يعلّم الفقه للكبار ويعمل على تحفيظ القرآن الكريم للصّغار. وغالبًا ما يختتم الشّهر الفضيل باحتفالات تُقام لتكريم أولئك الذين منَّ عليهم الله بحفظ جزء أو أكثر خلال فترة الصّيام .
وفي طريقهما إلى المسجد كانا يمرّان على المستشفى المجاورة للمسجد فيطمئنان على صحّة المرضى ويسألان عن أحوالهم ويتأكدّان من أنّهم يتلقّون العناية الكاملة ثمّ يدسّ الشّيخ حارث بعض المال في يد المحتاجين منهم ويمضي قبل أن يمطره أهل المريض بكلمات الشّكر.
كانت هذه الرّحلة اليوميّة بالنّسبة ل” بثينة ” رحلة اكتشاف في بادئ الأمر فاستمتعت بما تفعل. لكنّ تكرار الأمر جعلها تتململ فالأمر شاقّ بالنّسبة لطفلة في السّابعة. وذات يوم تمنّت “بثينة ” لو يصطحبها جدّها إلى أحد أماكن التّرفيه كما يفعل أترابها مع أهاليهم ،فتجرّأت وسألته بنبرة حزينة :
جدّي! لماذا نمضي وقتنا كلّه بين المسجد والمستشفى ومركز تحفيظ القرآن ؟
نظر الجدّ إلى عينيها الذّابلتين وقال:
سأخبرك السّرّ يا ابنتي .. هذا المسجد بناه جدّي الكبير الحاج مصطفى بعد أن قدم من المغرب، على غرار “جامع القرويّين” هناك .
فتحت بثينة عينيها وصاحت باستغراب: “القرويّين” ؟!
فأكمل الجدّ كلامه : نعم يا عزيزتي، إنّه جامع أسّسته السّيّدة ” فاطمة بنت محمّد” المعروفة ب” أمّ البنين”، وهي سليلة ” عقبة بن نافع الفهريّ” ( فاتح تونس ومؤسّس القيروان) وأوقفته للعلم والعلماء .
سألته “بثينة” باستغراب : أوقفته؟! كيف ذلك ؟
لاحظ الجدّ أنّ حفيدته لم تفهم معنى كلمة “أوقفته” فأوضح لها قائلًا : أوقفته أي منعت بيعه وشراءه وبات مخصّصًا لأهل العلم والدّين فقط يا ابنتي. إنّها التّجارة مع الله سبحانه.
ابتسمت “بثينة” وقالت: هي تجارة رابحة بدون شكّ، أخبرني المزيد عنها يا جدّي.
قال الجدّ ( وهو يربّت على كتف حفيدته ): التّجارة مع الله تعني الإنفاق في سبيل الله. قال الله تعالى في سورة البقرة : ( من ذا الذي يقرض الله قرضًا حسنًا فيضاعفه له أضعافًا كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون ) الآية رقم 245
وفي سورة الحديد الآية رقم 11 قال سبحانه : ( فيضاعفه وله أجر كريم ) . لقد دعا الله إلى بذل المال والتّصدّق في وجوه الخير المتعدّدة ، لهذا قام جدّي الكبير ببناء هذا الجامع الذي ألحق به المستشفى وضمّ إليه مدرسة لتعليم القرآن الكريم وتحفيظه وأوقف جزءًا من ماله للإنفاق عليهم .
قالت بثينة والفرح يشعّ في عينيها العسليّتين: جدّي.. العمل في التّجارة يجعل المرء غنيًّا . أليس كذلك ؟
أجاب الجدّ بثقة : بكل تأكيد يا ابنتي، ستصبحين من أغنى الأغنياء، سيكون لكِ قصر في الجنّة فيه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، تجري من تحته الأنهار وستعيشين فيه إلى الأبد.
قالت “بثينة”: ما أكرمك يا إلهي ! شكرًا لك جدّي على هذه المعلومات الرّائعة، أعدك أن أصير منافسة لك في هذه التّجارة لنبني معًا قصرنا في الجنّة ”
ابتسم “الشّيخ حارث” وقال: إذًا .. هيّا بنا يا صغيرتي، فبرنامجنا اليوم حافل بالمهمّات .
أمسكت “بثينة” بيد جدّها ومشت إلى جانبه بكلّ رضى وسعادة يرافقهما وفي أذنيها صوت يصدح من المئذنة القريبة بالآية الكريمة : بسم الله الرحمن الرحيم : وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ”
وتنفّس الجدّ الصّعداء وهو يرى لحلمه امتدادًا في عينيّ صغيرته وعلم أن الخير الذي خلقه الله باقٍ إلى ما شاء الله
استاذه زينب عبد الباقي كاتبة لبنانية
د.محمد فتحي عبد العال كاتب وباحث وروائي مصري