تحليل للدكتورة/ نادية حلمى
الخبيرة المصرية فى الشؤون السياسية الصينية والآسيوية- أستاذ العلوم السياسية جامعة بنى سويف
تأتى زيارة “أنتونى بلينكين” وزير الخارجية الأمريكى للصين بعد الإعلان الصينى الرسمى عن زيارة الرئيس الصينى”شى جين بينغ” لروسيا فى إطار مواصلة الإدارة الأمريكية خلال العام الجارى إستراتيجيتها لمواجهة النفوذ العسكرى والإقتصادى الصينى فى منطقة الإندو-باسيفيك بالمفهوم الأمريكى أو آسيا المحيط الهادئ بالمفهوم الصينى، ولتحجيم التحركات الروسية مع الصين فى أعقاب الحرب الروسية–الأوكرانية الدائرة. فضلاً عن محاولة الأمريكان خلال تلك الزيارة لحشد المزيد من الدول الحليفة معها، للإصطفاف مع الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الأوروبيين لعزل موسكو دولياً، والبناء على الإلتزامات الأمريكية تجاه الدول الحليفة عسكرياً فى حلف شمال الأطلسى “الناتو”، لتطويق وتحجيم الدعم الصينى المقدم لموسكو، والتلويح بورقة العقوبات الإقتصادية والقيود الأخرى فى حالة تقديم أى دعم صينى لموسكو والرئيس “بوتين”، خاصةً بعد إعلان مؤسسة الرئاسة الروسية “الكرملين” رسمياً عن زيارة صينية للرئيس “شى جين بينغ” إلى موسكو لبحث المزيد من سبل التعاون المشترك بين الجانبين، وهو بالطبع ما يثير حفيظة ومخاوف الأمريكان تجاه بكين وتقاربها مع الروس.
ومن هنا، تأتى زيارة “أنتونى بلينكن” للصين فى إطار النهج الأمريكى لتبنى سياسات متشددة أمريكياً تجاه الدب الروسى عن طريق محاولة تطويقه وتحجميه عن طريق الصين، خاصةً بعد غزو موسكو لأوكرانيا، مع تركيز إستراتيجية الأمن القومى لإدارة “بايدن”، والتى صدرت فى نهاية عام ٢٠٢٢، على أن بكين تمثل التحدى الجيوسياسى الأكبر للولايات المتحدة الأمريكية مع حليفتها الروسية. وقد سبق ذلك تأكيد من قبل وزير الخارجية الأمريكى “أنتونى بلينكن” فى خطاب له لتحديد إستراتيجية الإدارة الأمريكية تجاه الصين، معتبراً أنها “الدولة الوحيدة التى يمكنها إعادة تشكيل النظام الدولى الحالى، وإنها على نحو متزايد تلجأ إلى القوة الإقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية للقيام بذلك”.
ومن هنا تأتى زيارة وزير الخارجية الأمريكى “أنتونى بلينكن” للصين فى إطار السياسة الأمريكية المتشددة حيال بكين. فضلاً عن وجود إتفاق وشبه إجماع فى الوقت الراهن بين الحزبين الديمقراطى والجمهورى حول التهديد الذى يشكله الصعود الصينى إقتصادياً وعسكرياً وأيديولوجياً للولايات المتحدة الأمريكية، ولذا يدعمون إتباع نهجاً متشدداً تجاه بكين. بالإضافة لتبنى الإدارة الأمريكية لمجموعة من الإجراءات الإقتصادية والعسكرية الجديدة للتنافس مع الصين، وهى الإجراءات التى من شأنها تقويض العلاقات الثنائية الأمريكية–الصينية، كما حدث مؤخراً مع فرض واشنطن لقيود مشددة على مبيعات أشباه الموصلات إلى بكين، لإعاقة الجهود الصينية للمنافسة فى مجال التقنيات المتقدمة.
ومن هنا جاء إطلاق دعوات رسمية أمريكية من قبل عدد من المشرعين فى مجلسى الشيوخ والنواب الأمريكيين، ومسؤولى الأمن القومى الأمريكى، لحظر عدد من التطبيقات الصينية، وعلى رأسها برنامج “وى شات للتواصل الإجتماعى بين الصين والعالم”، وبرنامج “تيك توك”، لخطورتها من وجهة نظرهم على الأمن القومى الأمريكى، بجانب محاولة أمريكا إستفزاز الجانب الصينى عبر خطة إقرار واشنطن لصفقة أسلحة إضافية لتايوان.
وهذا تزامن مع جهود واشنطن لتعميق التعاون الإقتصادى والشراكات العسكرية والدفاعية والأمنية مع شركاء واشنطن فى منطقة الإندو-باسيفيك بالمفهوم الأمريكى أو آسيا-المحيط الهادئ بالمفهوم الصينى، وهو ما حدث بتوقيع واشنطن لإتفاقية “كواد الرباعية” مع أستراليا والهند واليابان لتقويض بكين إقتصادياً، وإتفاقية “أكوس” المثيرة للجدل دولياً ذات الطابع الدفاعى والأمنى النووى بين الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وأستراليا.
ويأتى توقيت زيارة وزير الخارجية الأمريكى “أنتونى بلينكن” للصين فى الوقت الحالى، فى إطار المخاوف الأمريكية بإلقاء بكين بثقلها الدبلوماسى خلال عام ٢٠٢٣، بعد تخليها عن العزلة النسبية التى فرضتها سياسة “صفر كوفيد”، وفوز الرئيس الصينى “شى جين بينغ” بولاية ثالثة على رأس الحزب الشيوعى الحاكم فى الصين، وهو ما أعطاه نفوذاً سياسياً داخلياً، تتخوف أمريكا من تحويله لسياسات عدوانية فى الخارج، ستحولها بكين لتحركات فى مناطق النفوذ الأمريكية لضرب شبكة مصالحها إقليمياً وعالمياً.
وهنا فإن أهمية زيارة وزير الخارجية الأمريكى “أنتونى بلينكن” للصين كمحاولة أمريكية لتحييد الصين بالأساس تجاه ملفين يهمان واشنطن فى الوقت الحالى، أهمها تحييد الصين فى مواجهة دعم الرئيس الروسى “بوتين” فى حربه ضد أوكرانيا، فضلاً عن محاولة الأمريكان تحييد الصين تجاه إيران وملفها النووى، خاصةً فى ظل غياب إستراتيجية بديلة للإدارة الأمريكية الحالية لإحتواء إيران بعد إخفاق الجهود الدبلوماسية الأمريكية للعودة إلى الإتفاق النووى مرة أخرى أو فرض ضغوط حقيقية تجاه طهران. ومن هنا فالإدارة الأمريكية الحالية باتت فى حاجة لإتباع إستراتيجية شاملة لإحتواء التهديد الإيرانى، وتقليص دعم طهران للميليشيات الحوثية لتعزيز الإستقرار الإقليمى لضمان أمن إسرائيل والدولة العبرية فى المقام الأول. وهو ما يستلزم ضغطاً أمريكياً تجاه الصين للضغط على طهران فى إطار إستراتيجية الردع الأمريكية لتقويض ومواجهة الأنشطة الإيرانية التى تزعزع الإستقرار فى منطقة الشرق الأوسط، وعدم السماح لقوى إقليمية أو خارجية بتهديد حركة حرية الملاحة فى الممرات المائية بالمنطقة والخليج العربى، ولا سيما عبر مضيقى هرمز وباب المندب، مع التأكيد الأمريكى على عدم التساهل مع تهديدات إيران ضد المواطنين والجنود الأمريكيين المتواجدين فى المنطقة. وهو ما إتضح جلياً من إجراء لتدريبات ومناورات عسكرية بحرية مشتركة بين الجانبين الأمريكى والإسرائيلى فى منطقة البحر الأحمر بالقرب من حركة المضائق والممرات البحرية فى تلك المنطقة، بالإضافة لما شهدناه سابقاً من مناورات بحرية عسكرية إسرائيلية فى البحر الأحمر، بالتعاون مع دولتى الإمارات والبحرين بعد عقد إتفاقيات سلام إسرائيلية معهم. بالإضافة للإتفاق الإسرائيلى الأمريكى الذى تم مؤخراً بين واشنطن وتل أبيب مع عدة بلدان خليجية لضرب إيران لضمان أمن منطقة الخليج العربى وإسرائيل، وهو ما يقسم المنطقة الآن ويقسم جهود المجتمع الدولى حيال مسألة ضرب طهران، خاصةً من قبل المعسكرين الصينى – الروسى وحلفاؤهم فى مواجهة المعسكر الأمريكى والغربى والدولة العبرية.
وعلى الجانب الآخر، فإن زيارة وزير الخارجية الأمريكى “أنتونى بلينكن” للصين، تأتى فى إطار التخوفات الأمريكية – الكورية الجنوبية تجاه مسألة التحدى النووى الكورى الشمالى، متزامناً مع تلك التحذيرات التى أطلقتها العاصمة “بيونغ يانغ” عبر وسائل إعلامها الرسمية مع بداية عام ٢٠٢٣، بزيادة ترسانتها النووية، وتسليط الضوء على الإجتماع الموسع الذى تم بين الزعيم الكورى الشمالى “كيم جونغ أون” مع قيادات وأعضاء حزب العمال الحاكم، وتأكيد الزعيم الكورى الشمالى على وجود حاجة لزيادة القوة العسكرية لكوريا الشمالية، لتعزيز قدرات الردع والدفاع لبلاده، من خلال زيادة إنتاج أسلحة نووية تكتيكية بكميات كبيرة، وزيادة هائلة فى الترسانة النووية للبلاد، فضلاً عن زيادة الترسانة الكورية الشمالية من الصواريخ الباليستية العابرة للقارات. لذا، فهناك تخوف أمريكى – كورى جنوبى من إجراء كوريا شمالية لسلسلة تجارب نووية بالقرب من مناطق نفوذ واشنطن وحلفاؤها الإقليميين فى منطقة الإندو-باسيفيك، وعلى رأسهم دولتى كوريا الجنوبية واليابان. وهو ما ترجمته واشنطن عسكرياً بالإتفاق مع العاصمة “سيول” بإجراء المزيد من التدريبات العسكرية المشتركة بين الولايات المتحدة الأمريكية وكوريا الجنوبية خلال عام ٢٠٢٣. مع قيادة الإدارة الأمريكية لجهود المجتمع الدولى بأسره لإدانة برنامج الأسلحة النووية لكوريا الشمالية فى منظمة الأمم المتحدة. ومن هنا فإن زيارة “أنتونى بلينكن” للصين تأتى فى إطار محاولة الأمريكان لتحجيم برنامج كوريا الشمالية النووى والعسكرى والباليستى عن طريق بكين.
ومن هنا نخلص بمحاولات الرئيس الأمريكى “جو بايدن” وإدارته لإجراء المزيد من التركيز على قضايا السياسة الخارجية الأمريكية المتعلقة بالأساس تجاه الصين وروسيا، عبر التعامل مع أبرز التحديات الأمنية العالمية المعقدة أمريكياً، والتى يواجهها الرئيس “بايدن” مع بداية منتصف ولايته الأولى خلال عام ٢٠٢٣، لتعزيز فرص فوزه أمام منافسه المرشح الجمهورى فى شهر نوفمبر ٢٠٢٣.
وقد بدأ الرئيس “بايدن” بالفعل فى تطبيق إستراتيجية إحتواء دولتى الصين وروسيا منذ لحظة إنتخابه وتوليه الحكم، وذلك حتى من دون أن يصدر رسمياً إستراتيجيته الجديدة للأمن القومى، وهو الأمر الذى إتضح مع التصريحات القوية له المهاجمة للصين ولموسكو، والتى ترجمتها تلك الزيارات المتوالية التى قام بها أقطاب الإدارة الأمريكية الحاليين، فضلاً عن اللقاءات التى عقدها الرئيس “بايدن” بنفسه مع دول محورية فى منطقة الإندو-باسيفيك بالمفهوم الأمريكى أو آسيا المحيط الهادئ بالمفهوم الصينى.
لذا فتأتى زيارات المسؤولين الأمريكيين للصين ولمنطقة الإندو-باسيفيك كهدف محورى للسياسية الخارجية للرئيس “بايدن” فى المرحلة المقبلة، والمتمثلة فى إحتواء الصين، ثم من بعدها ستتحدد بقية السياسات الخارجية لواشنطن، والتى ستسعى جميعها لخدمة ذلك الهدف المركزى والجوهرى لواشنطن، ولتحقيق موقع الأفضلية لأمريكا تجاه الصين عبر الإنتقال لأربعة مداخل أساسية لواشنطن، تتمثل فى: القدرة التنافسية للإقتصاد الأمريكى فى مواجهة بكين، وقوة الديمقراطية الأمريكية نفسها ونظامها السياسى وفقاً لوجهة نظر الرئيس الأمريكى “جو بايدن”، والأهم لدى الإدارة الأمريكية الحالية هى تقوية وحيوية شبكة التحالفات الأمريكية وشراكاتها، وتأكيد القيم الأمريكية الخاصة مع حلفاؤها الإقليميين وشركاؤها الدوليين الآخرين لتقويض قوة موسكو وبكين.