متابعة – علاء حمدي
صدر كتاب “الثقافة الفريضة الغائبة” للكاتب والمفكر المصري الكبير د. أسامة أبو طالب فى ١ يناير ٢٠٢١ عن دار نشر “إشراقة” للنشر والتوزيع، والذى جاء في 228 صفحة، يتضمن الكتاب 15 عنواناَ بعد المقدمة، تم تناول الثماني عناوين الأولى في قراءة على أربع أجزاء، وفي هذه القراءة سنتابع معاً مضمون ما تبقى من عناوين على التوالي.
يأتي العنوان التاسع عن “ملاحظات حول تهميش الثقافة وتهميش المثقفين” وكانت البداية بطرح سؤال عن حقيقة وجود “خطاب ثقافي” من عدمه !، وهل كان موجود ثم هُمش عمداً من قِبل الجماعة المثقفة ؟!، والتي غالبيتها لم تهتم بصياغة المفهوم الثقافي، فكان تهميشه في مقابل الإلتهاء بالضرورات الأولية المطلوب توفيرها من أجل استمرار حياتهم، هذا الذي أدى إلى وأد وتهميش الخطاب الثقافي. كما قام الكاتب بتصنيف التهميش إلى: “تهميش شخصي” إرادي، إيجابي ومرحلى بعزل الإنسان لنفسه لشحذ أفكاره وأدواته ولجمع الآراء المتضامنة معه للمؤازرة الفعلية للفكرة ولصالح التغيير الإيجابي على المستوى الديني والإنساني والمجتمعي (هذا بخلاف الإعتزال المتعالي أو اللا منتمي والمغترب ). ثم هناك التهميش “القسري المتعمد ” : وهو نتاج اختلاف عقائدي أو فكري أو مذهبي أو سياسي، قام المؤلف بتقديم نماذج وأمثلة عبر شخصيات تاريخية شهيرة بحقبات وبعصور مختلفة وجنسيات متعددة، تناول الكاتب إشكالية التهميش والمهمشين لخطورتها على المستوى الإنساني والإجتماعي، وتأكيداً على الدور الإيجابي للأدب والفن وقدراتهما على التنبوء بمشكلات كامنة وكوارث خطيرة في عمق المجتمعات، قد يؤدي أهمالها أو تهميشها إلى انفجارات كارثية على أصعدة مختلفة، لم تكن في الحسبان .
“دفاعاً عن الفن” عنوان جاذب من كاتب مخضرم له من صنوف الإبداع ما يؤهله لإنتقاءه، واصفاً الفن “كاللعبة” التى ترتقي بالنفس البشرية، القائمة على ما خص الله به بعض البشر من ملكات ومواهب، إذا ما أحسن تدريبها وتنمية قدراتها تكون أداة للترفيه حاملة رسالة لتهذيب النفس التى تساهم في بناء الحضارات، والرقي المجتمعي للشعوب والأمم . تحت عنوان “مستقبل العربية الفصحى” لم يخفي الكاتب غيرته الشديدة على لغته الأم، مستعرضاً تاريخ اللغة العربية الفصحى، مؤكداً على قيمتها بين لغات العالم، وتأثيرها الإيجابي حال تمسك الأجيال بها –والعكس صحيح، موضحاً خطورة ما تمر به اليوم من تفتيت خاصة بين جيل الشباب والمراهقين، والتأثير السلبي إذا ما تم مزجها باللغات الأجنبية، أو المزج بين الحروف العربية وبعض الرموز الدخيلة، أيضاً تغيير استخدام المعاني مما يسيء لإستخدام اللغة العربية الفصحى وتعرضها للإندثار، مع تراجع الإهتمام بمناهج اللغة للطلاب، وانتشار الدراما ووسائل الإعلام التى تسخر من مستخدميها، وتمكن الكاتب من وضع القارئ داخل هذه الإشكالية الهامة بإسلوب سلس –تصاعدي- موضحاً حجم ما نواجهه من خطورة مؤثرة على هويتنا العربية إذا لم نتلافى سريعاً هذا الخطأ الفادح ومنعه من التعاظم يوما بعد يوم.
حدثنا الكاتب عن سعي البشر للوصول إلى جنة السماء، أو إلى المدينة الفاضلة على الأرض من خلال عنوان “يوتوبيا الأرض وجنة السماء” ، كما عدد أسماء -جنة السماء- التى ذكرها الله سبحانه وتعالى منها: جنة الخلد، جنة عدن، الفردوس، الغرفة، جنة رضوان، جنة المأوى، النعيم المقيم، وبكونها عرض السموات والأرض، وشرط للإقامة الأبدية فيها أن تكون للمتقين فقط، فماذا عن جنة الأرض أويوتوبيا الأرض ( وهو تعبير فلسفي إغريقي الأصل – الطوباوية أوالمثالية- لتخيل خلق مجتمع مثالي فاضل )، وهل يستطيع الإنسان أن يقوم بذلك حتى يحظي بحياة مثالية فاضلة، تكون من صنع البشر ؟! قام الكاتب بعرض العديد من النظريات الجادة التى سعت جاهدة لتكوين هذه الجنة والوصول إليها بدءاً ب ” بجمهورية أفلاطون” التى كانت ارهاصات لبناء جمهورية مثالية، ثم توماس مور إلى الفارابي مرورا بالنظريات الفردية – تحكمها قانون داخلى- مثل الميكافيلية والوجودية لنتشه وهيجل وغيرهم، والنظريات التى يحكمها القانون الخارجي مثل الأثينية والماركسية والرأسمالية والديمقرطية وغيرهم من نظم، ونظريات متناقضة تحكم مؤسسات دول، نرى من ثبت فشله فعلياً في تحقيق جنة الإنسان الموعودة في الأرض، ونتابع الى اليوم من هم في طريقهم للأفول !.
كان استشهاد الكاتب بالحضارة العربية الإسلامية والذي شبهه بالمُرَكَب العبقري، المتشارك المتنوع الأصول كحضارة متفتحة متسامحة راقية، بعيداً عن الخرافات والنزعات والرؤى الفردية، والنظريات التى نشهد أفولها رغم تنوعها، فهي الوحيدة التى سطع نورها بنشر التنوير و”التسامح والعدل” تحت مظلة من – عدالة السماء – المراد تحقيقها على الأرض . من خلال عنوان “نحن والغرب مشاهد كوميديا قاتمة” أسرد الكاتب أربعة مشاهد أومواقف حياتية مر بهم، أثبتوا أننا في أشد الاحتياج لعمل حوار حضاري صريح مع الغرب وشعوب العالم للتعريف عن ديننا وأنفسنا كأصحاب ثقافة حقيقية متسامحة، فكان المشهد الأول بأواخر السبعينات وما حدث من أزمة وضجة واسعة، واكبت عرض فيلم “موت أميرة” ثم المطالبة بوقف عرضه، الثاني بالثمانينات ومشهد رسام أوروبي يجمع الأموال من رسم صورة المسيح على أرض مترو الأنفاق، وما حدث من ضجة بسبب اعتراض مسلم على مثل هذا التصرف المسىء للسيد المسيح خاصة بعد أن قام كلب بقضاء حاجته عليها، بالطبع لم يفهم الناس سبب الإعتراض، لولا تدخل من الكاتب وبعض الأصدقاء لإيضاح ما يتضمنه ديننا من تعليمات تأمرنا بإحترام الرسل كافة، المشهد الثالث الأزمة التى صاحبت ظهور أغنية مبتذلة تحتوي على صوت الآذان، مشوهة لصورة صلاح الدين الأيوبي، المشهد الرابع عن صدور رواية “سلمان رشدي” المسيئة للإسلام وما أثير حولها من ضجة عالمية، من منطلق وجوب تلافي مثل هذه الأزمات المستمرة، كان مطالبة الكاتب بتوسيع لغة الحوار والتعريف بين ثقافتنا والأخر.
“الإرهاب والفن” وضح الكاتب أن من سمات تكوين الإرهابي وكرهه للفن، أو الترويح عن القلوب، معادٍ للثقافة، خاضع لقشور الدين والفتاوى الخاطئة لمتطرف غير متعمق لأصول دينه، يري أن في لين القلوب ضعف يقلل من عزيمة القتل والإنتقام والإغتيال الوحشى بلا تمييز بين طفل أوشاب أو امرأة ومسن، هو إنسان عدائي مريض كاره لنفسه ولمجتمعه، ذو شخصية انتقامية، وبعد عرض لآخر احصائيات ضحايا الإرهاب، طالب الكاتب بمحاربة الإرهاب بالفكر والتسلح بالتنوير وغرس روح الإنتماء داخل الأطفال والشباب، ونشر التسامح والعمل على لين القلوب والتسلح بالعلم والإفصاح لشعوب العالم عن عظمة ثقافاتنا واحترامنا لجميع الأديان والرسالات السماوية والتنوير والمعرفة، كما نرى الكاتب يدعو للوسطية في الفكر موضحاً رؤيته من خلال عنوان “يميناً أو يساراً وما بينهما مرفوض”.
في ختام الإصدار كان عنوان الوفاء والتبجيل للقدوة الحقيقية في حياة الكاتب، والتى كان لها تأثير عميق في بعض من تركيبته الإبداعية ومنهج حياته، فنستمتع بسمات الإنتماء الأصيل تفوح من بين السطور، عندما يكتب كاتبنا الكبير د. أسامة أبو طالب عن الشاعر الكبير “صلاح عبد الصبور” تحت عنوان “عشاء الشاعر الأخير”، تأتي الكلمات معطرة محملة بالعرفان والمودة والإحترام من الطالب للأب الروحي، ولإدراك المعنى علينا أن الإستعانة بالإصدار القيم والذى أتممت قرأته عليكم بهذا الجزء الأخير، وإلى مقال جديد منفصل نأتي فيه على ربط مضمون هذا الكتاب مع مضمون ما ذكرت من قراءاتي الأخيرة السابقة، كإستراتيجية عالمية تناولها كُتاب ومفكرين من جنسيات متعددة، مؤكدين على تفعيلها التدريجي – واقعياً – داخل المجتمعات وشعوب العالم بداية من القرن الماضي .. تحياتي وإلى لقاء قريب .