تحليل الدكتورة/ نادية حلمى
الخبيرة المصرية فى الشؤون السياسية الصينية والآسيوية- أستاذ العلوم السياسية جامعة بنى سويف
لعل المفارقة التى استوقفتنى بشدة كخبيرة فى الشأن السياسى الصينى، هو توقفى للبحث وتحليل العلاقة بين “عملية طوفان الأقصى” أو حرب غزة فى ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ وتوظيف تكنولوجيا الذكاء الإصطناعى فى الصين فى تلك الحرب، فقد لعب (دمج الذكاء الإصطناعى فى العمليات العسكرية الإسرائيلية وتدريب الولايات المتحدة الأمريكية لكوادر إسرائيلية على ذلك فى فترة وجيزة للقضاء على حركة حماس وأنفاقها المتشعبة داخل قطاع غزة، فضلاً عن توظيف الصين لذلك لإبراز هذا الدمار الشامل الذى سببه الإسرائيليون والأمريكان داخل قطاع غزة) دوراً محورياً فى هذا الصراع المحتدم بين الطرفين. كان رد فعل الصين سريعا، وكما أظهرت التقييمات المبكرة، تمكنت بكين من الاستفادة من الضغوط الشديدة التي يمارسها الرأي العام العالمي ضد جرائم تل أبيب، من أجل مهاجمة المعايير المزدوجة للغرب، وخاصة الولايات المتحدة، وكان رد فعل بكين الفورى بعد حرب غزة مباشرةً متمثلاً فى الإعتماد بكثافة على تقنيات الذكاء الإصطناعى المتقدم لصناعة صور وفيديوهات تصور الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل كالشيطان المدمر، وتعكس مدى الدمار والخراب فى قطاع غزة. لذا جاءت الصور والفيديوهات الصينية المنشورة علنياً بإستخدام تقنيات الذكاء الإصطناعى، فى إبراز هذا الإرتفاع الكبير فى عدد الضحايا المدنيين من صفوف الفلسطينيين.
فلقد وظفت الصين جيداً تكنولوجيا الذكاء الإصطناعى للإنتصار فى معركة القيم التى تقودها دبلوماسياً فى مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل والغرب، عبر بث الصينيين لصور وفيديوهات متقدمة مصممة بتقنيات الذكاء الإصطناعى، لإظهار المشاعر المعادية للولايات المتحدة الأمريكية فى الشرق الأوسط، كذلك أظهرت الصور والفيديوهات الصينية بنظام الذكاء الإصطناعى بعد حرب غزة الأخيرة مدى الإنقسام الحالى بين الأمريكيين الذين يدعمون إسرائيل، وأولئك الذين لا يدعمونها. كما لوحظ فى الوقت ذاته بدأ حملة مرتبطة بالحزب الشيوعى الحاكم فى الصين على إنشاء ونشر صور ساخرة ودعائية، أو ما يعرف بـ “ميمز” ينتجها الذكاء الإصطناعى، والتى صممت خصيصاً لإثارة المشاعر المعادية للولايات المتحدة الأمريكية فى المنطقة. فجاء التصميم الصينى للصور بإستخدام تكنولوجيا الذكاء الإصطناعى الصينية عبر إبتكار تعبيرات لصور مختلفة تظهر مدى الكره الشعبى العربى والعالمى للولايات المتحدة الأمريكية، كتصميم يبرز جلوس العم سام الأمريكى على عرش مصنوع من البنادق فوق عبارة “تاجر الأسلحة الأمريكى” فى إشارة لقتله الفلسطينيين بعد رفض الولايات المتحدة الأمريكية عدة مرات للفيتو الصينى والروسى فى مجلس الأمن الدولى لوقف إطلاق النار فى قطاع غزة. كما أظهرت صور صينية أخرى منشورة صينياً لإبراز الرئيس الأمريكى “جو بايدن” وهو يرتدى زى عامل، ويقف أمام علم أمريكى وحوله مشاهد دموية تعكس حجم الدمار والخراب الحاصل فى قطاع غزة، ومكتوب على تلك الصورة عبارة بأن “الولايات المتحدة الأمريكية هى الداعم الوحيد للحرب فى غزة”.
كما جاء الرد الصينى على الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها من خلال آلية التصعيد المفاجئ فى مواجهة واشنطن، بإشعال المعركة التقنية معها إلى مستويات جديدة، من خلال قيام الصين بتقييد صادرات المعادن المستخدمة فى صناعة الرقائق والإلكترونيات ومنتجات الطاقة الشمسية. ونجد أنه وبحسب إشعار صادر عن (وزارة التجارة ووزارة الجمارك الصينية)، فإنه وإعتباراً من الأول من أغسطس ٢٠٢٣، وحماية للأمن القومى الصينى ومصالح الدولة الصينية، يمنع على أى طرف فى الصين، تصدير معدنى (الجاليوم والجرمانيوم)، حيث يجب على المصدرين لهذه المعادن، في حال رغبوا بالإستمرار فى شحنها إلى خارج الصين، التقدم بطلب للحصول على تراخيص تسمح لهم بذلك. ومن هنا نجد بأن آلية تقييد صادرات المعادن الصينية إلى الخارج، ولاسيما الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، وربطها بالحصول على ترخيص، أتى ليظهر أن الصين لا تزال تحتفظ بأسلحة محورية فى حربها التكنولوجية فى مواجهة واشنطن وتل أبيب.
كما جاء التأييد الصينى لأهالى قطاع غزة المحاصر بمنع الإسرائيليين من الحصول على مكونات وتقنيات الذكاء الإصطناعى المتقدم ذات الإستخدام المزدوج المدنى العسكرى من الصين، حيث أعلن الإسرائيليين بأن الصينيين يفرضون نوعاً من العقوبات على تل أبيب بعد حرب السابع من أكتوبر ٢٠٢٣. ورغم أن الصينيين لا يعلنون عن ذلك رسمياّ، لكنهم يؤخرون الشحنات إلى إسرائيل، بحجج وذرائع وأعذار مختلفة، مثل مطالبة الموردين الصينيين لنظرائهم المستوردين فى فى إسرائيل، بإصدار تراخيص تصدير إلى إسرائيل لم تكن موجودة من قبل، وذلك بغرض منع الصين للجانب الإسرائيلى من توظيف تلك التقنيات المتقدمة لأغراض عسكرية يضر بالمدنيين الأبرياء فى قطاع غزة. خاصةً مع ملاحظة الجانب الصينى مدى الإعتماد الإسرائيلى خلال قصفه لقطاع غزة المحاصر، على (قاعدة بيانات مدعومة بنظام الذكاء الإصطناعى)، وهو الأمر الذى سهل على جيش الإحتلال الإسرائيلى تحديد حوالى ٤٠ ألف هدف فلسطينى محتمل داخل قطاع غزة. كما جاءت الملاحظة الصينية، لإستخدام إسرائيل لنظام الذكاء الإصطناعى المعروف بإسم “لافندر”، والذى سمح للمسؤولين العسكريين الإسرائيليين بقتل أعداد كبيرة من المدنيين الفلسطينيين، خاصةً خلال الأسابيع والأشهر الأولى من الحرب. لذا جاء القرار الصينى بمنع تصدير التكنولوجيا المتقدمة لإسرائيل، لاسيما التى تستخدم لأغراض مدنية وعسكرية فى الوقت ذاته، وهو الأمر الذى أغضب الإسرائيليين وبشدة من الصينيين، وإتهامها بأنها ليست معهم فى الحرب.
وفى الوقت ذاته، فلعل ما إستوقفنى على الجانب الآخر، هو إستدعاء الجيش الإسرائيلى للآلآف من الخبراء اليهود حول العالم والإسرائيليين المتخصصين فى تكنولوجيا الذكاء الإصطناعى لمساعدته فى حربه على حركة حماس داخل قطاع غزة، بهدف مساعدتهم لجيش الإحتلال الإسرائيلى عبر خبرتهم فى إستخدام تقنيات للذكاء الإصطناعى إلى إسقاط المسيرات الفلسطينية المقاومة ورصد أنفاق حركة المقاومة الإسلامية (حماس). حيث تشكل شبكة الأنفاق الفلسطينية فى قطاع غزة تحدياً أساسياً للجيش الإسرائيلى، الذي أعلن إكتشاف عدد كبير منها وتفجيره عبر تحديد أماكنها بإستخدام تكنولوجيا الذكاء الإصطناعى المتقدم. كما لجأ الجيش الإسرائيلى إلى إستخدام طائرات مسيرة تستخدم تقنيات الذكاء الإصطناعى، لإعداد خريطة لهذه الأنفاق التى تشير تقديرات غربية إلى أنها تمتد على مسافة أكثر من ٥٠٠ كيلومتر. ومن هذه التقنيات الإسرائيلية إستخدام مسيرات قادرة على رصد البشر والعمل تحت الأرض. ووفقاً لتوضيحات عسكرية إسرائيلية، فإن هذه المسيرات الإسرائيلية بنظام الذكاء الإصطناعى، بمقدورها الدخول إلى الأنفاق التابعة لحركة حماس، والسماح برؤية قدر ما يسمح الإتصال معها.
وهو نفسه ما أشار إليه جيش الإحتلال الإسرائيلى حول الغرض من الغاية من هذه التقنيات التكنولوجية المتقدمة بالذكاء الإصطناعى فى حرب غزة، حين أشار المتحدث بإسم الجيش الإسرائيلى “دانيال هغارى”، إلى أن القوات الإسرائيلية تعمل “بالتوازى فوق الأرض وتحتها”. عبر التأكيد الإسرائيلى بأن هذه التقنيات تستخدم بالدرجة الأولى لإسقاط مسيرات تستخدمها الفصائل الفلسطينية، ورسم خرائط لشبكة الأنفاق في قطاع غزة المحاصر من قبل جيش الإحتلال الإسرائيلى داخل القطاع. وإستخدم الجيش الإسرائيلى للمرة الأولى تقنية (منظار تصويب الأهداف العسكرية معزز بنظام الذكاء الإصطناعى)، وهو المنظار العسكرى المتطور الذى طورته شركة “سمارت شوتر”، وزودت به أسلحة مثل البنادق والرشاشات. حيث لوحظ أن هذه التقنية الإسرائيلية، تساعد الجنود الإسرائيليين فى إعتراض الطائرات المسيرة من قبل حركة حماس، التى تستخدم كثيراً تلك المسيرات فى حربها ضد إسرائيل، مع إعلان الجيش الإسرائيلى رسمياً، بأن “تلك التقنية الإسرائيلية المتقدمة بنظام الذكاء الإصطناعى، تجعل كل جندى إسرائيلى، حتى لو كان أعمى، قناصاً”.
وعلى الجانب الأمريكى، بإعتبارها أبرز داعمى إسرائيل سياسياً وعسكرياً فى حربها داخل قطاع غزة، فقد بدأت الولايات المتحدة الأمريكية فى تدريب جنودها على إستخدام تقنية “سمارت شوتر” لإسقاط المسيرات التابعة لحركة حماس وجناحها العسكرى فى حربهم ضد إسرائيل، علماً بأن هذه المسيرات الفلسطينية التابعة لحركة المقاومة الفلسطينية “حماس” تستخدم بشكل متزايد منذ إندلاع حرب غزة من قبل فصائل مسلحة مناهضة لواشنطن، لإستهداف قواعد تضم جنوداً أمريكيين فى منطقة الشرق الأوسط. وهذا ما فعلته الولايات المتحدة الأمريكية فى تدريب عدد كبير من الكوادر الإسرائيلية واليهودية فى حرب غزة، لإختيار وتوسيع الأهداف الإسرائيلية فى الحرب على غزة، فقد دربت الولايات المتحدة الأمريكية تلك الكوادر الإسرائيلية على تطوير نظام ذكاء إصطناعى يسمى “حبسورا”، وهو نفسه النظام الذى سرع من وتيرة الإستهداف الإسرائيلى على المدنيين فى قطاع غزة، حيث يعمل نظام “حبسورا” على إستخراج كميات كبيرة من المعلومات من مصادر مختلفة، مثل: بيانات الإتصالات ولقطات الطائرات وبيانات المراقبة، ومن ثم تحليلها وإنتاج توصيات للأهداف التى سوف تستهدفها القوات العسكرية الإسرائيلية فى مواجهة حركة حماس وجناحها العسكرى.
ويبقى الشئ الجدير بالدراسة والتحليل فى هذا الإطار، هو ما يجرى خلف الكواليس بإستخدام تقنيات الذكاء الإصطناعى، حيث كشفت العديد من عمليات الإعتقال التى أجرتها سلطات الإحتلال الإسرائيلية بعد حرب غزة مباشرةً، بأنها تستخدم تقنية “مسح وجوه الغزيين أو أهالى غزة الذين يمرون عبر الحواجز العسكرية والأمنية الإسرائيلية بإستخدام تقنيات الذكاء الإصطناعى). حيث أنه بإمكان هذه البرامج الإسرائيلية المتطورة تحديد أسماء الأشخاص في ثوانى قليلة. وهذا بالظبط ما كشف عنه ضباطحاجة فى المخابرات الإسرائيلية ومسؤولون عسكريون، بتأكيدهم على أن إسرائيل بدأت فى إستعمال هذا البرنامج المتطور للذكاء الإصطناعى بكثافة بعد حرب غزة فى السابع من أكتوبر ٢٠٢٣. مع الوضع فى الإعتبار، بأن جمع صور الغزيين وأرشفتها إسرائيلياً قد تم من دون علمهم أو موافقتهم على الإطلاق، وهو ما ينتهك أبسط معايير الحقوق الإنسانية التى دأبت إسرائيل على الدوام فى إنتهاكها.
ومن هنا نفهم، بأن الرد الصينى فى مواجهة الإستخدام الإسرائيلى والأمريكى لتكنولوجيا الذكاء الإصطناعى المتقدم فى مواجهة المدنيين والأبرياء العزل من أهالى وسكان قطاع غزة المحاصر بعد عملية “طوفان الأقصى”، جاء عبر منع المصانع الصينية وتحديداً مصانع التكنولوجيا الصينية الفائقة من تصدير منتجاتها إلى إسرائيل بعد حرب غزة، حيث تجد إسرائيل صعوبة فى الوقت الحالى فى إستيراد المكونات المتقدمة من الصين التى تفرض عقوبات غير مباشرة أو غير معلنة بشكل رسمى على إسرائيل على خلفية الحرب فى غزة. حيث بدأ الصينيين فى وضع العديد من العراقيل وخلق صعوبات بيروقراطية للشحنات الذاهبة إلى إسرائيل من المكونات التي يمكن إستخدامها لأغراض مدنية وعسكرية فى نفس الوقت. وهو الأمر الذى أفصح عنه عدد من المستوردين الإسرائيليين من أن الموردين الصينيين، قد بدأوا بممارسات تضيقيية فى مواجهتهم، من دون الإعلان عن عقوبات ضد إسرائيل، من خلال مطالبتهم المستوردين الإسرائيليين بملء العديد من نماذج الإستمارات، مع تأخير الصين للشحنات إلى إسرائيل، بحجة عدم ملء النماذج بشكل صحيح من قبل الإسرائيليين، والنتيجة هى صعوبات فى الحصول على الإمدادات من التكنولوجيا الصينية المتقدمة إلى إسرائيل.