نخبنا في نزاع دائم ومستمر مع التاريخ كأن العقل السياسي لدينا عاطل عن التمثّل والتحليل ولا يجيد الا المحاكات والتكرار … وبالفعل فإن الضغينة والاحتقار من المشاعر التي حكمت تاريخ تونس وحسمت العلاقة بين أطراف الحكم في مراحل هامة ومفصلية.
بهذا الدافع ، دافع الانتقام وتصفية الحساب لجرح في كبريائه، خلع الحبيب بورقيبك لامين باي من على العرش ونكّل به . ولأن الذاكرة السياسية عندنا مصابة بوَهَن البطء في استحضار الماضي، سهى بورقيبة وجماعتُه عن بن علي رجل الأمن الذي لم تحسب له بارونات الحزب الحاكم اي حساب في سباق الخلافة..
في تاريخنا ضغائن وأحقاد تُخفى وتتخفى احيانا لتنفضحفي منعرجات يكون فيها الحكم ذلك الرهان المكبوت. على هذا المسار المنكسر ولدت المعارضة الديمقراطية مع حركة الديمقراطيين الاشتراكيين بزعامة احمد المستيري وزير الداخلية الاسبق المنشقّ عن بورقيبة خلال مؤتمر المنستير خلال سبعينات القرن الماضي… لا يُفهم انشقاق المستيري وراضية حداد والباجي قايد السبسي عن زعامة بورقيبة الا كانتقام تاريخي للامين باي ول”بلديّة” الحاضرة الذين رُكِنوا الى الصف الثاني تحت حكم الحبيب بورقيبة…
لم تولَد الديمقراطية خارج سياق تصفية الحسابات ولم يولد { الهاجس الديمقراطي } إلا داخل مطبخ الحكم وحواشيه. فالمدارس السياسية الراديكالية المعارِضة (ماركسية وقومية بعثية وإسلامية ) لم تكن تطرح مسألة الديمقراطية ولا تنخرط في مسارها ، بل كانت -على تبايناتها مع نظام الحكم- تقاسِمُه الاستبداد كمنهج حكم وتتقاسم فيما بينها العنف الثوري كطريق الى الحكم…
هذا المسار دشّنه التيار القومي في محطات متباعدة من عملية قفصة مطلع الثمانينات الى الصراع السري بين مخابرات النظام والتنظيمات البعثية الى حد سقوط النظام. ولم تكن التيارات الماركسية بعيدة عن هذا الحراك ، على الرغم من كونها نأت بنفسها عن المغامرات العسكرية وحاولت تثوير الحركات الجماهيرية (الحركة الطلابية والحركة النقابية) …
مسار الحركة الاسلامية تشكّل في سياق التخطيط الامريكي لقطع الطريق امام المد الشيوعي في العالم وإيقاف تنامي الحركة اليسارية في الجامعة التونسية وداخل الحركة الشبابية. وعلى الرغم من ان الاخوان انزعوا بورقيبة مسألة الهوية والعقيدة الا انهم شكّلوا الاحتياطي الوظيفي للمخطط الامريكي في المنطقة المراهن على تصادم الاضداد لحماية الوسط المشكل لمجال النظام الرسمي …
لم يُطرَح الاستحقاق الديمقراطي إذًا الا في سياق عَرَضي محمول على حسابيات الحكم والمعارضة داخل النخبة. بمعنى أن الديمقراطية في تونس لم تكن في يوم من الايام مطلب اغلبية اجتماعية فاعلة. ولم تتشكّل بواكير الوعي الديمقراطي داخل المجتمع إلا بعد سقوط النظام في 14 جانفي 2011 وتشظّي الطبقة السياسية في فوضى أخرجت تناقضات الطروحات “الثورية” لتفسح المجال لمراكمات جديدة تتشكّل كاعتراض صريح على مرحلة حكم الاخوان ووريثها الشعبوي.
إذا كانت الكيانات الاجتماعية تماما كالكيانات البيولوجية، يلاحقها سن اليأس فإن قوة دفع الحراك الديمقراطي لن تكون الا قوى من خارج التقليدي الموروث برافديه (نظام الحكم والتيارات الراديكالية).
د. ليلى الهمامي